فيصل بن عبد الرحمن بن معمر- الشرق الاوسط السعودية-
لعل من أهم التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية اليوم هو كيفية التعامل مع الاختلاف والتفيصل بن عبد الرحمن بن معمرنوع الثقافي والديني والعرقي. ومع تزايد وتيرة التحريض على العنف وارتكاب الفظائع تحت مبررات دينية وعرقية، أصبح موضوع إدارة التنوع، من خلال صناعة التعايش، داخل المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات الإنسانية، أمراً في غاية الأهمية، ليس فقط لأصحاب القرار السياسي، بل لأفراد المجتمع كافة. ومن هذا المنطلق أصبح مفهوم التعايش أحد المفاهيم المحورية الهادفة لإدارة التنوع في المجتمعات الإنسانية بشكل سليم، وتحويله إلى قوة دفع لتعزيز التماسك المجتمعي وتحقيق السلام بين شعوب العالم. لأن التعايش، كضرورة مطلقة لتسوية العلاقات الإنسانية، في المجتمعات والأديان والأوطان، لم يعد منها مفر؛ إذ إن البديل للتعايش هو، بالضرورة، الإقصاء والإلغاء وما يترتب عليهما من عنف وفوضى، وعنف مضاد.
التعايش لغة من تعايشوا: أي عاشوا على الألفة. وعايشه عاش معه، والعيش معناه الحياة. كما أن المفهوم الذي جاء على صيغة «تفاعل» اللغوية يقتضي، بالضرورة، علاقة تشاركية بين طرفين أو أكثر، مع وجود اختلاف بينهما أو اختلافات بينهم. وهذا يعني أن قدرتنا على إدراك أهمية العيش المشترك، كقيمة عليا من قيم الحياة، لا بد أن تكون نابعة من اعتقاد مشترك بين طرفين، أو أطراف تريد أن تتعايش، رغم اختلافهما. ولهذا فإن القيم المشتركة هي مركز ومحور عملية التعايش. ولتحرير مفهوم التعايش ورصد الأفكار التي تعكس حقيقته في الأذهان، لا بد من القول إن التعايش لا يعني إلغاء العقائد الأساسية للبشر، أو المرجعيات الفكرية المختلفة بينهم، لأن هذه العقائد أو المرجعيات هي التي تمنح الفرد توازناً نفسياً، وسلاماً داخلياً وانسجاماً مع محيطه العام. لكن مع ذلك، لا يعني الاختلاف في العقائد الأساسية بين البشر، في مجتمع ما أو كيان ما؛ إلغاء، أو إكراهاً لعقائد الآخرين أو المختلفين داخل ذلك المجتمع أو الحظر عليهم، ما دامت الممارسات التي يعبرون فيها عن عقائدهم المختلفة هي ممارسات ذات تعبير سلمي.
كما ينبغي الاتفاق والتسليم بأن كل النصوص المقدسة والفلسفات الإنسانية الكبرى لا تختلف فيما بينها حيال الإقرار والتسليم بأن المبادئ والقيم الإنسانية، مثل الكرامة الإنسانية والعدالة مثلاً، هي قيم قابلة لتصور التعاون والاشتراك في تحقيقها، مع بقاء الاختلاف الفكري والعقدي، الذي هو سُنة أخرى من سنن الحياة وحقائقها؛ ولكن، في الوقت نفسه، لا بد من الاتفاق، أيضاً، بأنه لا يقتضي التعايش بين أصحاب تلك الفلسفات والأديان والمرجعيات المختلفة؛ أن يكون على حساب التنازل في المعتقد الذي يمثل مرجعية الفرد لكل واحد منهم. بمعنى آخر، أنه، فيما دون التنازل على مستوى العقائد والمرجعيات العليا، هناك وجود لمساحة مشتركة وكافية لتفعيل مبدأ التعايش. وهذه المساحة المشتركة يعبر عنها مبدأ الاعتراف المتبادل لكل طرف بحق الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى؛ أولاً، في حريتهم المطلقة حيال توجهاتهم الفكرية والعقدية، وثانياً، في ممارسة التعبيرات السلمية التي تعكس تلك التوجهات الفكرية. وبهذا الاعتراف تتأسس مفردات غنية لعلاقات متعددة من القبول المتبادل بين الأطراف المختلفة، لا سيما إذا كان يجمعهم كيان مشترك، كالوطن، أو الدين أو العرق.
بطبيعة الحال، هناك اختلافات في رؤية البشر لمفهوم التعايش مع التسليم بضرورته والعيش ضمن شروطه كضمانة للسلم. لكن نظرياتهم في فهم التعايش على ضوء حقائق الواقع والتاريخ تختلف باختلاف منظور الرؤية الفكرية بين الأطراف المختلفة. وهذا بطبيعة الحال من حق كل تيار في اختيار استراتيجيات فهم تتناسب مع منظوره الفكري أو العقدي.
وفي غياب هذا الاستعداد النظري لفهم التعايش، في أي مجتمع أو كيان؛ سيكون البديل هو: الكراهية، والعنف، والإقصاء. لأن فكرة التعايش لا تقبل الفراغ؛ فإما أن يكون التعايش هو الطبيعة المعبرة عن الاستقرار والسلم، وإما أن يحل العنف الرمزي والمادي وما يترتب عليه من عنف مضاد وكراهية.
وحتى يتسنى لمبدأ التعايش أن يتحقق على أرض الواقع، فإن هناك منظومة من الشروط والقيم المصاحبة له، لا بد أن تكون حاضرة وداعمة له. فالمعرفة شرط ضروري من شروط مجتمعات التعايش؛ لأنه من خلال المعرفة والإدراك تتفهم المجتمعات المتحضرة اختلافاتها فيما بينها، من ناحية، واختلافات المجتمعات المغايرة لها، وما يتصل بذلك من عادات وتقاليد وبيئات حضارية، من ناحية أخرى. ولهذا فإن مجتمعات المعرفة تجعل اختلافاتها فيما بينها، واختلافاتها مع غيرها، مادة غنية للعيش المشترك، لا مادة للصراع.
والشرط الثاني هو النظام، ونعني بالنظام هنا؛ القواعد والقوانين التي تحكم طبيعة التعايش، بحيث يصبح التعايش، بذاته، علامتها الفارقة في أي مجتمع، عبر تطبيقات النظام الذي يؤطر ويحرس نمط التعايش وازدهاره في ذلك المجتمع.
ومن أهم هذه القيم الداعمة لمبدأ التعايش، قيمة الحوار؛ لأن الحوار هو عنوان التعايش والتعبير الأسمى عن دلالته؛ بل يمكننا القول إن التعايش، في حقيقته، إنما هو أشكال متعددة من الحوار، ناطقة وصامتة. كما أن الحوار هو النشاط الفكري الأول في مسيرة المجتمع نحو التعايش وبالحوار يمكننا استطلاع آراء المتحاورين، وتقييمها وتطويرها باستمرار عبر الفكر والرأي والرأي الآخر. وباختصار يمكننا القول إن العلاقة بين الحوار والتعايش علاقة شرطية يقتضي وجود إحداها وجود الأخرى بالضرورة. ومن القيم الداعمة للتعايش؛ قيمة الاحترام، فهي من مظاهر التعايش، لأن الاحترام في حقيقته حالة من سمو النفس تفرض على صاحبها مراعاة قواعد العيش المشترك. وبهذا يصبح الاحترام قيمة عليا في الضمير الاجتماعي الذي عادة ما يكون قيمة موازية لقيمة النظام والقانون. كما أن من مظاهر التعايش؛ قيمة التسامح، وهي قيمة ترتبط بالقدرة على أن يكون المجتمع متصالحاً مع نفسه ومعبراً عن ذلك التصالح من خلال التنوع والتعدد في التوجهات المختلفة بين أطيافه. إن التسامح بهذه الصورة، أيضاً، علامة كاشفة عن وجود التعايش وجوداً حقيقياً لا شكلياً. إلى جانب تلك القيم، يعتبر النقد الذاتي من أهم الحصون لمبدأ التعايش، حيث إن حصانة النقد الذاتي التي تزدهر في مجتمعات التعايش الحقيقي ستكون لها بمثابة المسار الذي يصفي صحة المجتمع والوطن من تلك الشوائب باستمرار. وبالتالي يصبح نمط التعايش في أي مجتمع هو حصانة مستمرة، عبر النقد الذاتي، من الارتداد والنكوص إلى حضيض الأمراض الاجتماعية المزمنة من قبلية ومناطقية وطائفية لا تبقي ولا تذر. وأخيراً ما يعتبر تاج التعايش وحصنه الآمن هناك قيمة المواطنة، بوصفها تعريفاً حصرياً وعمومياً للفرد في الدولة؛ تقوم عليه المساواة التامة بين جميع أفراد الشعب أمام النظام والقوانين، وبعيداً عن أي اعتبار للقبيلة، أو للون أو للعرق، أو للطائفة. ففي تفعيل مبدأ المواطنة على النحو الصحيح لا بد أن يكون التعايش هو شكل النمط الاجتماعي الحاكم للعلاقات البينية حيال مختلف مكونات المجتمع في الوطن.
إن مبدأ التعايش لم يعد مجرد ترف فكري يقتصر على الفلاسفة والمثقفين، بل هو ضرورة لحماية مستقبل البشرية من أخطار دعوات الكراهية والعنف والإقصاء على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية. وهذا يستدعي استنهاض قدرات المجتمعات الإنسانية وتوحيد جهودها لتعزيز مسار التعايش كقيمة إنسانية جامعة تكفل حماية التنوع، وتعزز الحوار والتعاون. ومن هنا، تأتي أهمية العمل على غرس قيمة التعايش في مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والأسرة وأماكن العبادة.