يوسف مكي- الوطن السعودية-
ربما لن تكون حادثة سيهات نهاية المطاف في مسلسل الإرهاب، لكن اليقظة والحذر والارتقاء بمفهوم الوحدة الوطنية ستسهم في محاصرة المتطرفين، وعزلهم عن النسيج الاجتماعي، وستمهد الطريق لدحرهم نهائيا
معضلة الحرب على الإرهاب التي تخاض الآن في عدد من البلدان العربية، تكمن في أنها مركبة ومعقدة، ذلك أنها تتعامل مع أفراد غسلت أدمغتهم، وأصبحوا يوجهون من بعد. والتعامل مع أفكارهم لا ينفع فيه سجال أو منطق. إن القيمة العليا للحياة، والتي منحها الخالق للإنسان، ليست في قاموسهم. ولذلك تغدو كل محاولات الأخذ والرد، في المواجهة معهم عبثية، عدا التصدي لهم في أوكارهم وفي ميادين المواجهة.
إنهم يعملون كالأشباح، ويتحركون كالخفافيش في الظلام. فليس هناك مكان أو زمان يمكن التنبؤ به لتنفيذ عملياتهم. فهم على الرغم من تبنيهم أفكارا متشددة، من خارج العصر وثقافاته، إلا أنهم يمارسون آليات حروب العصابات، بتقنياتها الحديثة. فهم، إلا فيما ندر، يعملون في مجموعات صغيرة، ويعتمدون سياسة اضرب واهرب، وينسحب ذلك بشكل خاص بالنسبة للمجموعات اللوجستية. أما المنفذون المباشرون فهم في الغالب انتحاريون، يأتون في صيغ عدة، إما بالمواجهة العسكرية المباشرة، أو بالسيارات المفخخة، أو الأحزمة الناسفة. وفي معظم هذه الحالات تنتهي حياة المنفذين المباشرين بالقتل.
هذا التوصيف يتطلب من الأجهزة الأمنية، في البلدان التي تتصدى لعمليات الإرهاب، تعاملا خاصا معه، تعاملا يستند على العمل الاستباقي، ومنع عناصر التطرف من المباشرة في تنفيذ أجنداتها. وهو ما تحقق فعلا على الأرض في بلادنا العزيزة، منذ قيام تنظيم داعش بعملياته الانتحارية، قبل عام من هذا التاريخ. وقد أسهم العمل الاستباقي في منع الإرهابيين من تنفيذ عشرات العمليات، كان من شأنها أن تودي بمئات الضحايا من المدنيين الآمنين.
لكن طريقة تشكيل التنظيمات الإرهابية التي تعتمد على مجموعات صغيرة، ومحدودة العدد، تضاعف المهمة على رجال الأمن، وهو ما يتطلب إسهام جميع المواطنين، كل من موقعه الخاص، في المواجهة الوطنية الكبرى للإرهاب.
مراكز توجيه العمليات وقيادة التنظيمات الإرهابية، حسبما تكشف من خلال القراءة، ومتابعة ما يجري من عمليات، وأيضا من خلال قراءة الوثائق التي نشرها قادة داعش، تشير إلى أنها في الخارج، وأن بنك المعلومات عن الأفراد التابعين ليس لدى تنظيماته الفرعية. وليس من شك في أن ذلك يضع على الأجهزة الأمنية مهام مضاعفة.
إن يقظة رجال الأمن تأكدت بجدارة، من خلال عمليات الاقتحام المستمرة، لأوكار المتطرفين، ولجم تحركهم. ولكن من المهم أيضا أن يرفد التحرك الأمني، بوعي وطني، يحاصر التطرف، في فكره وفي ممارسته، ويمنع عنه القدرة على الحركة.
في العمل الإرهابي الأخير الذي حدث في اليوم الثاني من محرم الحرام، بمدينة سيهات بالمنطقة الشرقية، تعاون المواطنون مع رجال الأمن، وحالوا دون وصول الإرهابيين إلى مبتغاهم. فكان أن تحولت المواجهة بين رجال الأمن وأفراد داعش، إلى حرب شوارع، تمكن خلالها رجال الأمن من القضاء على الإرهابي المسؤول عن التنفيذ، وإلقاء القبض على شخصين، كانا يعاونانه. كما أسهم وعي المواطنين في حماية أرواح العشرات، واستشهد خمسة أفراد من المدنيين، بينهم سيدة، وجرح آخرون، ولكن ذلك حدث أثناء المطاردة، وليس في المكان المستهدف.
بلادنا الآن في حالة حرب حقيقية مع الإرهاب، وربما لن تكون حادثة سيهات الأخيرة، نهاية المطاف في مسلسل الإرهاب، لكن اليقظة والحذر والارتقاء بمفهوم الوحدة الوطنية ستسهم جميعها، من غير شك، في محاصرة المتطرفين، وعزلهم عن النسيج الاجتماعي، وستمهد الطريق لدحرهم نهائيا، ولتبقى بلادنا، كما كانت دائما واحة للأمن والسلم.
ليس مقبولا، في هذا المنعطف من تاريخ بلادنا، أن ينبري أي كان للدفاع عن الإرهاب. وينبغي تطبيق القوانين التي تعاقب كل من يبرر عمليات الإرهاب، أو تلك التي تحرض على الكراهية، بصرامة ومن غير تلكؤ. فالوطن هو الأغلى، وأمنه وسلامته واستقراره ينبغي أن تكون في أعلى سلم أولوياتنا. فذلك وحده هو السبيل لمواصلة معركة البناء والتنمية، وصناعة المستقبل الواعد، والتماهي مع عصر كوني، سمته المعرفة والعلم، واحترام الكرامة الإنسانية.
لقد نعمت بلادنا العزيزة، طيلة عقود طويلة، بأمن واستقرار تحسد عليهما، وليس من شك في أن تواصل ذلك هو رهن بتغليب لغة المواطنة، والنأي عن كل ما من شأنه أن يخدش الوحدة الوطنية. هزيمة الإرهاب تقتضي محاربة الطائفية والفئوية، والانخراط جميعا في المواجهة الوطنية الكبرى ضد التطرف. وشرط ذلك تغليب لغة التسامح، والمساهمة الفعالة في بناء الوطن، والعمل على تعزيز وحدته واستقراره.
لقد أثبت مجتمعنا بأنه عصي على الاختراق، والانجرار إلى فخ الفتنة، وكان ذلك هو الهدف الرئيس للأجندات الخفية للإرهابيين، وللقائمين على توجيههم ودعمهم. وقد كشفت التفجيرات الأخيرة رغم فقدان الشهداء، عن عوامل القوة الذاتية في مجتمعنا، وما يشكل مصدر قوة حقيقيا في محاربة الإرهاب واجتثاثه.
إن الصراعات الإقليمية وتداعياتها لها انعكاسات على أمننا الداخلي، وهذا يدفعنا للوعي والتعريف بأبعاد وأهداف هذه الصراعات ومن المستفيد منها؟ وفي الوقت ذاته المساهمة في ضبطها كي لا تكون لها تأثيرات علينا، وللأسف هناك من يعطي لهذه النزاعات والصراعات أبعادا دينية، وهي بالمحصلة حروب منافع ونفوذ ومصالح.