د.عبد الله القفاري- الرياض السعودية-
بعد كل عملية إرهابية، يطل السؤال ما الذي يدفع هؤلاء الشباب - أدوات القتل واستباحة الدماء - للانخراط في هذا المشروع المدمر على كافة المستويات، والمنزوعة منه مقومات العقل والرشاد والضمير، كيف لا وهو يستهدف ما تبقى لمجتمعاتهم من مقومات القوة والتماسك في عالم ينهار كل يوم بين أعيننا..؟!
الدخول إلى عقل أولئك المنخرطين في هذا المشروع التدميري، قد يسهم في فك بعض تلك الطلاسم التي لازالت حديثاً متواصلاً حول كيف ولماذا وإلى أين؟
التركيز الشديد حول المفاهيم الدينية التي تقود هؤلاء للانخراط في هذا المشروع المدمر يستحق كل الأهمية، إلا انه ليس كافياً لتفكيك تلك الأحجية الكبرى التي نقلت المنطقة إلى مرحلة حالكة تستهدف ما تبقى لها من مقومات البقاء، ناهيك عن انتشال ذاتها من وحل السقوط في براثن هذا الجنون الدموي الذي لن يبقي ولن يذر.
هناك أطراف مؤثرة للغاية في معادلة الإرهاب المنظم الذي تقوده اليوم مجموعات أو تنظيمات تحت أي مسمى جاءت.. فالمسميات قد تتغير بين عشية وضحاها وهي تلد أشباهها.. إلا أن المشترك بينها أنها تستهدف تعميم حالة من التفكك والانهيار بعد الوقوع في شرك الحروب الطائفية والمذهبية وإشعال ما بقي من ملامح دول ومجتمعات تحيط بها مخاطر كبيرة وتحوطها مؤامرات أكبر..
الطرف الأول، ليس من السهل اكتشاف علاقاته، ولكن من الممكن الاستدلال على بعض آثاره. إنه الصراع الدولي في هذه المنطقة. الصراع على مقومات وقدرات ومستقبل لن تستقر ملامحه إلا بانتصار أحد المتصارعين، وقد يكون هذا صعباً اليوم، إنما يمكن القبول بتقاسم كعكة النفوذ والمصالح في مرحلة ما.
الغرب، ليس كتلة واحدة وليس نظراً واحداً وليس سياسة واحدة في قضايا المنطقة.. إنه خطاب دبلوماسي هادئ تظهر بين الوقت والآخر بعض تناقضاته. إلا انه يخفي صراعاً كبيراً ومتواصلاً ليس بالأدوات القديمة للصراع، والمواجهات المباشرة، ولكن بأدوات جديدة ولن تكون قوى الإرهاب وعناوينه سوى جزء من أدوات هذا الصراع.
هناك مناطق التقاء، وتفاهمات، وهناك ضرب تحت الحزام. هناك خطاب سياسي دبلوماسي إعلامي، وهناك نشاط استخباراتي وقوى تعمل في الظلام. هناك حجب كثيرة قد تحول دون كشفها وإنما يستدل من نشاط الأدوات على مصدرها.
لو حيّدنا الصراع الدولي عن المنطقة، لم نكن ضحايا تلك اللعبة الأممية القاتلة. ولكنها منطقة نامت على الضيم طويلاً، واستيقظت على تنظيمات تتوسل الإسلام وهي تمارس أعمالاً غاية في البشاعة والدموية، وتستهدف التقويض الكامل، لتعاني هذه المنطقة أعظم مأزق وأكبر محاولة تعويق لم تشهدها في تاريخها كله على هذا النحو وبهذه الخطورة.
الطرف الثاني، والذي لا يمكن تجاوزه في محاولة فهم هذا المسلسل القاتل وهذا التداعي الشره لتمزيق المنطقة، إنما هي تلك النظم العربية التي قفزت إلى الحكم بالدبابة والمؤامرة، لتورثنا بعد عقود دولاً هشة، وشعوباً مضطربة ممزقة المشاعر، تنتشر فيها الأمية، وتستهلكها الحياة بقسوتها، وتعمم فيها أخلاقيات الانتهازية وتجاوز القيم، وابتلاع ما تبقى من كرامة تحت وطأة الخوف وسطوة أجهزة القمع وانتشار الفساد.
النظام العربي القمعي والفاشل على صعيد بناء الإنسان، والمهجوس على الدوام بأمنه وسيطرته وتحالفاته، من أجل استدامة السيطرة وتكريس دولة الرعب.. يتحمل مسؤوليته أيضاً في انبعاث هذه المجموعات والتنظيمات..
يأتي الطرف الثالث في تفكيك هذا المشروع المدمر، وهي تلك الأدوات التي تستجيب لتلك الدعوات، وتنخرط في مشروع يحمل بريق الخلاص بينما يخفي أعظم مأزق، فهي لا ترى سوى العناوين التي يراد لها أن تعيش في أتونها من صراع طائفي وقتال مذهبي ودولة لا مستقبل لها، إلا في عقول مصمتة على فكرة وحيدة خلاصية تكتسحها ولا تترك مساحة أخرى للمزيد من الأسئلة.
هناك رأس تنظيم يدير عملية معقدة، وهناك ممول يدفع لتلك الحلقات الخفية، وهناك أدوات تستخدم بقوة تحت تأثير شعارات براقة من النادر أن تكتشف انها أكذوبة أو انها ستؤدي إلى كارثة كبرى ومأزق ممتد، وأن الحصاد مر وعلقم، وانها ليست سوى قنابل ومفخخات بشرية رخيصة الثمن وشديدة المفعول.. وأنها ستنتهي وظيفتها عندما يقطف السيد القابع خلف الستار ثمارها وهو يفاوض عليها ويقبض ثمنها.
هذا الطرف، هو الأخطر والأكثر فاعلية في الميدان، فدونه لم تكن لتنجح تلك المخططات ولم تفلح تلك المؤامرات.. ولذا تأتي عملية قطع حبل السرة بين المخطط والممول والأداة عملية ضرورة وفي غاية الأهمية.
كيف يمكن تحييد هذا الطرف، طالما الطرف الثاني يبقى منصرفاً لإشعال المزيد من الحرائق وتعميم القتل تحت وابل البراميل المتفجرة.. والقتل المعنوي الذي طال مقومات الحياة، وأغرق أجيالاً في أتون اليأس والقنوط والإحباط.. وكيف يمكن تحييد هذا الطرف مع دخول حلقة الصراع الدولي أشدها في المنطقة، حيث لم تبق دولة إلا وهي تشارك في معمعة عملية تأتي تحت عنوان "محاربة الإرهاب" إلا أنها تخفي أجندات المصالح والنفوذ.. والصراع المدفون تحت وابل من الكلمات الدبلوماسية، والتي لا تعني في كثير من الأحيان إلا الإمعان في التضليل.
بناء العقل السياسي ليس مهمة يسيرة، إلا انه المفتاح لإعادة توجيه بوصلة المعركة من حدود مفاهيم سهلة وقوالب معدة سلفاً عن الحق والباطل والكفر والضلال والنصر والشهادة إلى الغاية والوسيلة والهدف والاستهداف، إلى فهم معادلة صراع أصبح فيه أولئك المتورطون مجرد أدوات مفخخة ترسل الشظايا وتهرق الدماء وتحرق القلوب.. إنه اكتشاف عبقري ذلك الذي وظف تلك الأدوات ليظفر بأرخص القنابل البشرية وأكثرها تأثيراً وتدميراً واستنزافاً.
أما محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه فقد لا يكون ممكناً إلا من خلال الاقتراب من ثلاث مسائل، ربما تكون أهميتها بمستوى الأدوار الفاعلة لها في نزع الفتيل من تلك المفخخات البشرية.
أما الأولى فهو استعادة الإسلام فهماً وقيماً لحضن الرحمة والإنسانية، استعادته كأداة إنتاج للحياة. ولن يكون هذا ممكناً طالماً هناك فهم وقراءة لازالت تكرس مفاهيم الصراع والقتل على الهويات المذهبية والطائفية والدينية.. ولا تتورع عن بذر سموم الكراهية ولا ترى العالم إلا فسطاطين.. حتى أنتجت نفوساً لا تتورع عن سفك الدم الحرام في عبثية القتل والقتل المضاد.
أما الثانية، فتتعلق بالعمل لإنتاج عقول تحمل وعياً سياسياً، وفهماً وإدراكاً لحقائق الصراع.. فلا يمكن لمن يحمل عقلاً ووعياً سياسياً وفهماً لمعادلاته أن يتم تضليله بهذه السهولة.. ولو بحثنا في عقول أيّ من أولئك المتورطين في العمليات الإرهابية فأعتقد انها ستكون خلواً من أي فهم لتلك المعادلات، وقد تكون استراحت إلى فهم وحيد بسيط.. فثنائية الإسلام والكفر، والتوحيد والشرك، والمسلمين والصليبيين لازالت هي مقومات جلب المزيد من تلك المفخخات البشرية.
وتبقى المسألة الثالثة، وهي تتعلق بفتح آفاق للتعاطي مع الأفكار والرؤى، من خلال استعادة الشباب للثقة بإمكانية المشاركة في صناعة عالم يستجيب لتطلعاتهم.. فالعمل في الهواء الطلق يصنع خبرات جديدة وينمي عقولاً جديدة.. ويعظم الثقة بالنفس ويحول دون تكريس الإحباط والانصراف إلى عالم خفي يفاجئنا بالطوام كل حين.