محمد المحمود- الرياض السعودية-
في كثير من الأحيان يكون (التحليل) تعبيرا من صاحب التحليل عن تأييده لهذا الموقف السياسي أو ذاك، كنوع من إشهار الاصطفاف. وإشهار الاصطفاف ليس عيبا في حد ذاته، بل على العكس، هو حق لكل أحد، وقد يكون واجبا في كثير من الأحيان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالولاء للأوطان
لا يرتاب أحدٌ في أن (المسألة الطائفية) قد أصبحت اليوم رقما صعبا في معادلة الاستشكال السياسي في المشرق العربي، إن لم يكن هذا على مستوى الدوافع والمحفزات والبواعث الأساسية؛ فأقله، على مستوى الشرعنة التي تبدأ بالتبرير؛ لتنتهي بالتحفيز الذي يتمفصل على محددات طائفية واضحة.
وبهذا، ينتهي الأمر إلى أن يكون الصراع صراعا طائفيا على أكثر من مستوى؛ مع كونه – في الأساس – صراعا سياسيا بامتياز.
لا يخفى أن القضايا عندما تكون سياسية، أو عندما يتم تسييسها؛ ترتفع درجة الحساسية في مقاربتها عند جميع الأطراف. حتى القضايا الفكرية المجردة، يكون التعاطي معها مُتعقلِنا نوعا معا، ولكنها ما أن ترتبط بمنحى سياسي واضح؛ إلا وتجدها قد أصبحت معترك عواطف ومواقف؛ أكثر مما هي معترك عقول. ولهذا، كانت الأفكار الإيديولوجية المباشرة هي دائما الأفكار التي تؤجج الصراع، أو هي التي يجري عليها الصراع؛ لأنها – بالضرورة – تتضمن إرادة تغيير تشتغل على معادلات القوى في الواقع المتعين.
ومن هنا، فهي (الإيديولوجيا) عصب الفعل السياسي في كل مستويات اشتغالها، باعتبار أنها تلامس مصالح الناس – إيجابيا وسلبا – على نحو مباشر. وعندما تكون كذلك؛ فالتفاعل معها سوف يكون أكثر شمولية وأشد عمقا؛ بحكم أن (المباشرية) تستفز كل الشرائح الاجتماعية على اختلاف مواقعها وتباينها من حيث تراتبية الوعي أو من حيث تراتبية الموقع الاجتماعي.
هذا يعني أن أولئك الذين يزهدون في التعاطي مع بعض الأفكار المتعالية نظريا، لكونها – في نظرهم – لا أثر لها في واقعهم؛ لن يمارسوا هذا الزهد مع الأفكار المباشرة التي يرونها تفعل في الواقع، وتتقاطع مع مصالحهم على نحو واضح ومباشر وآني.
والأفكار السياسية، كما الأفعال السياسية، ترتبط – مباشرة – بمصالح واقعية أو متوهمة/ مظنونة؛ فتضغط على الوعي المباشر للإنسان، وتستفزه غاية الاستفزاز لاتخاذ موقف ما. وبالتالي تجعله أبعد ما يكون عن الحياد؛ حتى وإن توهم الحياد بإرادته على مستوى التصور الواعي؛ إذ هو – من حيث يشعر أو لا يشعر – يستبطن أن التحليل السياسي (الذي هو ممارسة في إنتاج الأفكار من خلال الواقع) لا ينفك عن كونه تعبيرا عن موقف، وكونه تعبيرا عن موقف؛ يستلزم – بالضرورة – الاصطفاف مع طرف ما، ولن يكون هذا الطرف الذي ينحاز إليه المحلل إلا (الأنا)، أو ما يدور في فلكها من تيارات وجماعات ودول.
وهنا نأتي لمسألة مهمة، وهي: هل يستلزم التحليل موقفا؟. أي: هل لابد أن يصدر التحليل عن موقف أو يعبر عن موقف أو يبرر لموقف، أو ينتج موقفا؟
من حيث الأصل، لا يستلزم التحليل موقفا، بل على العكس، ارتباطه بموقف يُفقده موضوعيته ابتداء. التحليل هو محاولة لمعاينة/ فهم الواقع (كما هو) قدر المستطاع. هذا هو الأصل الوظيفي لعملية التحليل. لكنه في واقعنا العربي لا يلتزم بهذا الأصل، فالتحليل السياسي في العالم العربي لا يحاول رفع مستوى الوعي بالواقعة السياسية كما هي بكل ملابساتها؛ بقدر ما يحاول إقناعك بوجاهة موقفه السياسي، تبريرا أو حشدا وتجييشا، ولو بتزييف الوعي بالواقع.
في كثير من الأحيان يكون (التحليل) تعبيرا من صاحب التحليل عن تأييده لهذا الموقف السياسي أو ذاك، كنوع من إشهار الاصطفاف. وإشهار الاصطفاف ليس عيبا في حد ذاته، بل على العكس، هو حق لكل أحد، وقد يكون واجبا في كثير من الأحيان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالولاء للأوطان. لكن، هذه الإيجابية في اتخاذ الموقف تتحول إلى سلبية؛ عندما يكون هذا الاصطفاف مغلفا بتحليل يدعي الموضوعية، بينما هو يمارس تزييف الحقائق بتغييب بعضها، أو بتشويه بعضها الآخر، أو بصناعة (حقائق) لا أساس لها في الواقع، لا لشيء، إلا ليعلن المحلل السياسي اصطفافه السياسي مع هذا الفريق أو ذاك.
استشعار كثير من العرب لوجود تلازم بين التحليل السياسي ونتائجه من جهة، والموقف السياسي من جهة أخرى، هو ما جعلهم يبحثون في كل تحليل سياسي عن موقف صاحبه، وعن غايته - غير العلمية – من هذا التحليل. لا يناقشون المنطق التحليلي من داخله؛ ليكشفوا عن مكامن الخلل في مسار التحليل قبل النتيجة، بل يحاولون تفنيد التحليل بناء على نوع النتيجة/ هويتها السياسية. وهذا ينسحب – إلى حد ما – على التحليل الاقتصادي أيضا.
لا بد من رفع درجة الوعي الجماهيري (ومعظم الوعي الإعلامي والثقافي في عالمنا العربي هو وعي جماهيري بامتياز) بالفرق الكبير بين التحليل السياسي والاقتصادي وما يترتب عليهما من نتائج، وبين الموقف/ الاصطفاف الذي قد يشي به هذا التحليل.
فمثلا، الاقتصادي الذي يتحدث – بعد تحليل عميق – عن الخلل أو الضعف الاقتصادي في بلده، قد يكون أشد حبا لبلده من الذي لا يتحدث إلا عن مظاهر الازدهار، وبالتأكيد هو أشد حبا لبلده من الذي يمارس تزييف الحقائق؛ ليؤكد عدم وجود أي خلل أو أزمات. فالموضوعية في مثل هذا السياق هي الأصدق في التعبير عن الولاء؛ لأنها هي التي تدعم الوطن بالحقيقة الموضوعية، وليس بمجرد الادعاء الفارغ.
وكما هو الأمر في الاقتصاد، هو كذلك في السياسة. فالمحلل السياسي يجب أن يطرح رؤيته – بعد قراءة شاملة وعميقة – دونما ارتهان لموقف سابق على التحليل، حتى لو كانت نتائج طرحه تخالف هذا الموقف الرسمي أو ذاك. ومن هنا، يجب أن تؤخذ نتائج طرحه بوصفها تحليلا، لا بوصفها موقفا. فمن حيث أصل الموقف، يجب أن يكون – بعاطفته - مع وطنه، ولكن من حيث التحليل، يجب أن يكون وفيا للشروط العلمية في حقله المعرفي.
ولو كان صدق الولاء يستلزم المطابقة بين نتائج التحليل وبين المواقف الرسمية؛ لكان من الواجب على المحلل أن يكتفي بشرح البيانات الرسمية والتعليق عليها بما يؤكدها فقط، بل لوجب عليه الوقوف عن طرح رؤيته التحليلية حتى تصدر التصريحات الرسمية التي تحدد له – وفق هذا التصور القاصر لطبيعة التحليل - ما ينبغي عليه أن يقوله؛ حتى لا يحدث تعارض لاحق. وبالتالي؛ لوجب على كل المحللين السياسيين في وطن ما، أن يتّفقوا في نتائج التحليل حد المطابقة؛ لأنهم مرتهنون بما يصدر من تصريحات لا مهمة لهم إلا شرحها. بل لوجب أن يكتفي الناس، أفرادا ومؤسسات ثقافية وإعلامية، بتلك التصريحات دون الالتفات إلى أي تحليل؛ لأن أي تحليل لن يخرج عن منطق التصريح الرسمي.
على هذا، قد يكون للإنسان موقف عاطفي/ ولائي، يختلف عن موقف التحليلي/ الموضوعي. قد تكون له رؤية تحليلية في إدارة صراع سياسي ما، ولكن من حيث الموقف/ التأييد/ الاصطفاف، هو مع وطنه/ تياره/ طائفته، باعتبار محض الانتماء. وفي هذا السياق، لا تستلزم الرؤية التحليلية – بالضرورة - بناء موقف على أساسها، كما لا يستلزم الموقف بناء رؤية تحليلية تتوافق – بالضرورة – معه.
كل هذا في أصل مبدأ التحليل وأصل مبدأ التأييد أو الرفض/ الموقف، وإلا فقد يتطلب الموقفُ صياغةَ التحليل بأسلوب يحافظ – إلى درجة ما – على سلامة الموقف، من حيث عدم تأثير التحليل على الموقف تأثيرا سلبيا. ويدخل في هذا (توقيت التصريح) بالتحليل، وأيضا، أخذ طبيعة المتلقي في الاعتبار، خاصة إذا ما كان صاحب التحليل ذا جماهيرية واسعة مؤثرة، جماهيرية لا تفرق بين منطق التحليل ومنطق التأييد.
وإذا كانت الجماهير بطبعها لا تفرق بين منطق التحليل وبين الموقف؛ فإن هذا الالتباس ليس وقفا عليهم، بل إن كثيرا من ممارسي التحليل، حتى أولئك الذين يتوسلون الموضوعية، يستشعرون – بعمق – أن ثمة تلازما بينهما. فالمحلل السني يرى أن تحليله للأوضاع في العراق مثلا، يجب أن ينتهي بإعلان الصريخ على الهيمنة الشيعية على القرار السياسي فيه، والمحلل الشيعي يرى أن تحليله يجب أن ينتهي بتأكيد تحرر القرار من أي تحيزات طائفية، مؤكدا أن كل ما يحدث، إنما يحدث بمنطق المعادلة الديمقراطية.
وإذا كان المحلل السني لا يتردد في وصف تصرفات (حزب الله) بالطائفية، مستشهدا بوقائع يدعم بها تحليله الموضوعي!، فإن الشيعي لا يرى في تصرفات (حزب الله) إلا دفاعا عن النفس بالدفاع عن مصادر الدعم، مستشهدا – أيضا – بوقائع يدعم بها تحليله الموضوعي!.
ليست المشكلة هنا في المواقف، فلكلّ مواقفه وتحيزاته المسبقة، ومن حقه الوقوف – تأييدا ودعما – لمن يرى أنه المعبر عن مصالحه على المستوى الشخصي أو الطائفي أو الوطني. المشكلة هي في تضمين المواقف في تحليلات تتغيا الموضوعية، وفي أسوأ الأحوال، تدعي الموضوعية. وكثيرون يتصورون أنهم يُعبّرون عن رؤى موضوعية للواقع، ويأتون بشواهد ومعلومات و..إلخ تدعم (توجههم التحليلي)، ولا يعون – على مستوى الوعي المباشر – أنهم يقرأون الشواهد والمعلومات بوعي مُوجّه سلفا، لا يعون أنهم أسرى لقناعات سياسية كبرى، ترتبط – حقيقة أو توهماً - بالمصير الطائفي العام، كما ترتبط بالتاريخ، فتحكم منطقهم التحليلي من حيث لا يشعرون.
هنا قد يسأل أحدهم؛ فيقول: إذا كان التحيز الطائفي يتم بدوافع من خارج نطاق الوعي عند المحللين السياسيين؛ فكيف يمكنهم التعرف على هذا التحيز، ومن ثم، الانعتاق منه، ولو نسبيا؟
لا شك أن هذا صعب، ولكنه ليس مستحيلا. وفي ظني أننا في سياق الصراعات الراهنة، نستطيع التعرف على تحيزاتنا الذاتية بقراءة نتائج تحليلنا. فمثلا، السني الذي يرى أن نتائج تحليله تصب (دائما) في مجرى تصويب الخيارات السنية بتحالفاتها في كل مكان؛ فلا أشك أن ممارسته التحليلية مخترقة بتحيز طائفي. كذلك الشيعي الذي يرى نتائج تحليله تصب (دائما) في مجرى تصويب الخيارات الشيعية بتحالفاتها في كل مكان؛ فلا شك أن ممارسته التحليلية مخترقة بتحيز طائفي، ولا تغني التبريرات هنا وهناك؛ لأن من المستحيل أن تتوافق الرؤية التحليلية على التصويب لوقائع متباينة، لا يجمع بينها إلا الرابط الطائفي، ثم لا تكون طائفية.
لكن، عندما يكون تحليلي يُدين القوة الشيعية في لبنان (حزب الله)، ولكنه يؤيد القوة الشيعية (ممثلة في الحكومة) في العراق، فلا شك أنني هنا لست أسيرا لمنطق طائفي في التحليل. وقس على ذلك عشرات المواقف.
لهذا أقول لكل محلل أو صاحب رأي يدعي الموضوعية: راجع حساباتك/ تحليلاتك عندما تجد تحليلك السياسي الذي تدعي فيه الموضوعية لا يصطدم – ولو لمرة واحدة - بانتمائك الطائفي؛ لأنك حينئذٍ لا تمارس التحليل السياسي، وإنما تتخذ موقفا، والموقف حق لك، ولكنه ليس من التحليل السياسي في شيء.