صالح الديواني- الوطن السعودية-
نجران التي أوفت بالعهود على مر الزمن، وأسست لمجتمعها المتسامح القوي، ليست خيارا ناجحا لأولئك الفاشلين، وليست قرارا موفقا للإرهاب ولن تكون، وستظل عصية على الضالين الأعمال الغادرة في العادة لا تزيد المغدور المصاب إلا قوة وتماسكا يحسده عليهما الغادر، فالغادر بطبعه جبان لا يقوى على المواجهة، فهي ليست في قاموس ثقافته ولا من تكوينه الفكري ولا من بُعده الأخلاقي، فقد ارتبط الغدر بالخيانة على مر التاريخ، وشكلا معا ثنائيا أحمق، لم تُقر به أية أمة عاشت على وجه الأرض مطلقا، فدوّن التاريخ في ذاكرته أسوأ السطور عن أولئك الخونة، بينما سطر أعظم المشاهد والكلمات لأولئك الذين غُدر بهم بخسة، ولنا في حادثتي اغتيال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، والإمام علي بن أبي طالب "رضي الله عنهما" أعلى الأمثلة وأكثرها خلودا في ذاكرة الإسلام.
الأسبوع الفائت كان المشهد مهيبا حين وصلت نجران في جمع من الأصدقاء من جازان، لأداء واجب العزاء عقب حادثة التفجير في مسجد المشهد، كجزء من واجب الأخلاق وتأكيد ألم المصاب الواحد، والجسد الواحد والوطن الكبير الواحد، فاستقبلنا الرجال النجرانيون بقصة من قصص القبيلة الأصيلة، وراحوا يتراصون أمامنا كالبنيان العظيم واحداً واحداً، حتى أنني شككت في كوني في المكان الذي من أجله أتينا..!!
لم يكن ذلك بعزاء للشيخ الشهيد علي آل مرضمة، رحمة الله عليه، كلا.. لقد كان احتفالا صاخبا للحب والانتصار والفخر والانتماء والاعتزاز، وأشياء كثيرة لا يعيها سوى أولئك الرجال الذين كانوا في استقبالنا، ويا الله كم كانت اللوحة مسرحية تاريخية، تعكسها ملامح وقسمات وجوه الشيوخ ولحاهم البيضاء المهذبة، وقوة قبضاتهم التي تقدم التمر، وتلك الممسكة بفناجين القهوة، وبهجة النصوص الارتجالية التي يتلونها واقفين كأنهم الشعراء في عكاظ.
كنت أراقب وأستمع إلى حديث صاحبي سعيد آل مرضمة -ابن الشهيد- باهتمام بالغ، وهو يسرد للحضور وفي صوته بحة جنوبية وصحوة صوت متسامح، قصة التفجير الغادر الجبان، وبطولة والده الشيخ الشهيد ورفيق دربه، وشهادة صاحب البقالة في الحي، ومعركة الثلاثين ثانية التي سبقت التفجير الإرهابي، بين الشيخ الطاعن في الحكمة والسن، وبين الإرهابي الطاعن في البؤس والحقد والغل.
تخيلتها -وهي كذلك- معركة بين الحق والباطل، كتبت تاريخا سيظل في ذاكرة المكان كالأخدود ما بقيت النساء تلد والرجال يزرعون النخيل في نجران.
كان سعيد مسترسلا ما قعد في مكان حتى أقعدوه، متحمسا للحديث أكثر بفرح وفخر ليس كمثله فخر، حتى تمنيت أنني أقف مكانه.
وبينما أنا مصغٍ إليه، إذ بي أتذكر أنني وسط نجران.. تلك القصة التاريخية الواقعة في جنوب الجزيرة العربية قليلا إلى الغرب، نجران (يام وهمدان)، نجران الأصدقاء والعزة.
حينها أدركت أن نجران التاريخ التي تمتلئ بالقامات، ليست لقمة سائغة كما يظنها الأوغاد، وأن نجران التي أوفت بالعهود على مر الزمن، وأسست لمجتمعها المتسامح القوي، ليست خيارا ناجحا لأولئك الفاشلين، وليست قرارا موفقا للإرهاب ولن تكون، وستظل عصية على الضالين.
تأكد لي أن أصغر نخلة نجرانية عصية على كل الحاقدين والمخربين، لذا لا تفكروا في الحصول حتى على أصغر أزقة نجران أيها التعساء المكفرون. لقد كان ذلك المشهد رسالة كبيرة بصوت عالٍ، إلى كل المجرمين الذين أرادوا التسلل من باب الطائفية إلى مجتمع ألف التعايش وقبل به خيارا وعقدا.
ودعنا القوم وهم لا يريدون، وغادرنا نجران قافلين إلى جازان، وكنا نتأمل في جبالها الصلبة التي لا زرع فيها ولا طير، فعرفنا سر قوة الرجال فيها، ثم حين تذكرنا نخيلها، عرفنا أن تلك الجبال الصلبة لم تخدعنا ونحن في طريقنا إلى نجران، فقد كانت نجران فاتنة ذات ملامح من صلب التاريخ وروحه، اجتمعت فيها صلابة الجبال وكرم النخيل، فقال فيها رفيق السفر الشاعر الحسن آل خيرات المكرمي:
نجرانُ شماءُ تستعصي على النارِ
ودونها من كرامِ الحيّ والدارِ
تأوي سواها على ضيمٍ، ويملؤها كِبْرٌ وشأوٌ، وتأوي ذاتَ إكبارِ..