مرزوق بن تنباك- مكة نيوز السعودية-
لو استعرضت بمسح شامل علاقة الإنسان بما حوله وما يربطه بالآخرين من أسباب التوافق والاختلاف منذ بداية العلاقات البشرية حتى عصر الدولة الحديثة، لوجدت أن الدولة الحديثة بوجودها وقوانين التعدد فيها قد اختصرت كل ما سبقها من روابط اجتماعية وثقافية وعرقية وغيرها في معنى واحد هو المواطنة وحقوقها وواجباتها، حيث أصبحت هي مناط التكليف الاجتماعي والرابط بين كل المنتمين للوطن والعمود الفقري الذي يعتمدون عليه والقاسم المشترك بينهم.
ولو تحدثنا عن سكان المملكة العربية السعودية وماضيهم القريب قبل الوحدة، لوجدنا كثيرا من الثنائيات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، وكيف تجاوزنا تلك الثنائيات إلى معنى المواطنة في فترة ليست طويلة إلا أنها كانت كافية لترسيخ قيم المواطنة وحقوقها المعتبرة وإن كانت نظريا يشوبها التجريد.
ومع انتقال المجتمع السعودي من القرى والأرياف والبادية وهجرته الداخلية إلى المدن واستقراره فيها كان المأمول أن يزيد الانصهار الاجتماعي داخل المحضن الجديد، وأن تكون المدينة الحديثة بوتقة الصهر الطبيعي للهوية الوطنية الواحدة التي ينمو فيها مجتمع مدني إنساني متكامل الشخصية واضح الانتماء لحياته الجديدة، وأن ينبثق عن هذا التجمع السكاني الكثيف مجتمع جديد تقوم صلاته وانتماءاته على أساس الاشتراك والتوافق الطبيعي بين الناس كافة واحترام الرابطة الجديدة بينهم وهي المواطنة.
لكن مع الأسف أن ذلك التجمع والتكدس السكاني الكبير في المدن وانجذاب الأطراف والأرياف للحواضر نقل معه صورة الحياة القديمة بكل علاتها التي كانت سائدة قبل الوحدة، وأصبح التعليم والاتصال بين الناس شكلا هلاميا ظاهرا لا يحقق وحدة مشتركة، ولا يبني هوية وطنية حقيقية تقضي على رواسب الماضي الذي كانت الذاكرة الجمعية مشبعة به في الماضي، فحملت في تلافيفها ماضي الإقليمية والعشائرية التي سادت قرونا طويلة، لكن بشكل مختلف وأسلوب جديد منظم غير ذاك النموذج الذي كان موجودا قبل عصر الدولة، وإن كان يحمل معناه ومفهومه القديم.
نشأ عن هذا الحال ازدواج في المفاهيم الوطنية والحقوق المشتركة، مما أضعف الانتماء للمواطنة وعزز الانتماءات القديمة التي كانت معروفة لسكان الجزيرة العربية قبل أن تحمل اسمها الوحدوي الجديد المملكة العربية السعودية.
لقد تقدمنا في التعليم وتقدمنا في الاقتصاد والنمو السكاني الكبير والتجمع في مدن مليونية تضم كل الطوائف وكل الفعاليات الاجتماعية، وما يترتب على هذا التجمع من روابط وصلات متوقعة ممن يضمهم الوطن ويجمعهم الإطار السياسي القائم على أساس المواطنة وحقوقها المشتركة، ومع كل تلك الروابط الحديثة الفاعلة، جرى انتقاصها وجرى الخروج على ثوابت هوية المواطنة وحقوقها، وظهرت العصبيات على كل مستوياتها، وبرزت الولاءات لغير الهوية الوطنية الواحدة، مما جعل ظاهر التحدي للمواطنة وشروط وجودها بارزا في ممارسات النخب الاجتماعية على كل المستويات، ولا سيما قسوة الموروث الإقليمي وتشكله غير السوي في الهيكل الاجتماعي الجديد.
ولا شك أن ما يحدث يعيدنا إلى تقويم الحراك الاجتماعي الذي سار بنا بعيدا عن قيم المجتمع الأول البسيطة، وسار بنا بعيدا عن أهداف المواطنة الحديثة إلى أهداف متشعبة كثيرة الفروع متباينة الغايات، والسبب أن النخب التي فازت بحظها من القوة البيروقراطية لم تنس التركيبة الإقليمية والعشائرية التي كانت سائدة قبل عصر الدولة، فاسترجعت موجباتها وقوانينها الاجتماعية وأسرفت في اتباع قيم الماضي وأعرافه الإقليمية وأضفتها على الحاضر المدني المختلف.
إن الذي يكرس الهوية الوطنية وينميها في النفوس هي منظومة الحقوق التي توجبها المواطنة ويحميها القانون، وهي الأساس الذي تقوم عليه صلات الناس ويستوي التعامل بينهم فيها، وأهم ذلك كله المساواة في الحقوق والواجبات، وإتاحة الفرص على مبدأ الكفاءة والقدرة، وأن يشعر الجميع أن الوطن واحد، وإن تعددت أقاليمه ومناطقه.