د. حسناء عبد العزيز القنيعير- الرياض السعودية-
من الأسئلة التي تتداعى إلى الذهن هنا هي: لماذا صار سهلاً على بعض المتحمسين رمي الآخر في كرامته ووطنيته ودينه؟ ولماذا كل هذا الحقد والاستعداء على الآخر القريب وكأننا في ساحة حرب؟
من أقوال دنیس دیدرو (1713 - 1784) فيلسوف وكاتب فرنسي من فلاسفة عصر التنوير ومن قادة حركته فى فرنسا:"لا يفصل بين التعصب والبربرية إلا خطوة واحدة" و"لم يسبق لفيلسوف أن قتل رجل دين، ولكنّ رجال دين قتلوا كثيراً من الفلاسفة"!
ظهر في بلادنا بتأثير الإخوان المسلمين فكر جديد تمثل في التعصب الحزبي، فسيس الدين باستخدام الأدوات نفسها التي تستخدمها الجماعات المتشددة، كجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها أساليب التنظيم والمواجهة والعنف، في التعامل ضد المجتمع أحياناً، وضد السلطة السياسية حيناً آخر. وهو ما سمح لهم بتحويل الاتجاه الديني البحت إلى منحنى أيديولوجي، سيطر على خطابهم وبرامجهم وآرائهم حتى الدينية منها.
وحسب الدارسين لفكر المتحزبين عامة والإخوان خاصة، فإن من صفاتهم: تضخم الذات، والجهل المعرفي، والغلو في تعظيم رؤسائهم، والانغلاق على الذات وضيق الأفق، علاوة على الفهم الخاطئ للدين، وتجاهل ما جاء به من قيم سامية لاسيما فقه الاختلاف.
إن أكثر ما يسيء إلى أيّ نظام مجتمعي هو افتقاد قيم التسالم والتعايش القائم على التسامح، ونبذ التعصب، وتسييس الحياة وأدلجتها لتدخل الأيديولوجيا في كل شيء، وبمقتضاها ينقسم المجتمع إلى أطياف، ويصبح معيار قبول الأشخاص في المجتمع ونيلهم فرصهم، رهيناً بتزكية هذا الفريق أو ذاك، على حساب الكفاءة والقدرة والتميز، ما يخلق حالة من الإحباط، عند الذين لا ينضوون تحت مظلة من تلك المظلات السالفة! فأخلاق الارتزاق السياسي والدعوي، كانت السبب في الزج بالعصبيات في الخطاب الديني والمجتمعي، ما نتج عنه خروج الأمور عن حدودها الطبيعية، لتتحول إلى إلغاء واستنزاف، وتشتيت لجهود بناء المجتمع.
في هذا السياق تدخل الحملة المنظمة – التي راعت كثيراً من المواطنين الغيورين على وحدة الوطن وأمنه - عند تعيين الدكتور أحمد العيسى وزيرا للتعليم، تلك الحملة الممنهجة التي اشتعلت بها مواقع التواصل الاجتماعي، ولمّا يجف حبر قرار التعيين، حملة قادها حزبيون حركيون ومريدوهم، وبعض البسطاء الذين يتبعونهم مطبقين المثل الشعبي (مع الخيل يا شقرا)!
لم يكن هذا الأسلوب وليد اليوم، فلقد دأب الحركيون على اعتلاء صهوة التهييج والإثارة منذ عدة سنوات، حيث كانت مرحلة التسعينيات من القرن المنصرم، وكيف كانوا يستخدمون كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للتحريض على مخالفيهم، عبر الفاكسات والمنشورات، وكلّ الفضاءات المدنيّة التي يرتادها النّاس، لاسيما المساجد التي احتكروا خطابها الوعظي، مستغلّين عاطفة البسطاء المفتقرين لحصانة الفكر الديني، والوعي المجتمعي والحس النّقديّ، كانت الغوغائية سيدة الموقف، والعنوان الصارخ لتلك المرحلة وخطابها، الذي تفاقم حتى باتت قضية قيادة المرأة على سبيل المثال أمرًا دينيًا محضًا، أعطى بعض أعدائنا فرصة ذهبية للنيل من بلادنا، بسبب ذلك المنع الذي لا علاقة له بالدين أبداً، بل بالفكر الحزبي المؤدلج الذي عجز عن إيجاد دليل واحد من القرآن أو السنة يمنع قيادة المرأة، لذا جنحوا لآراء غريبة يخرجون بها عن مقتضيات العقل والفطرة السليمة، وحاجة الناس في هذا العصر، متمسكين بسد الذرائع، الذي لو استجابت الدولة له منذ أزمان، لما جرى تحديثها على النحو الذي نعيشه اليوم.
كانت الحملة الأخيرة ممنهجة؛ غلب عليها طابع عنيف وثأري لا تخفى دوافعه، علاوة على تدني لغة الخطاب، وارتفاع منسوب الألقاب والنعوت ذوات المدلولات السلبية، واتهام كل من سوّلت له نفسه الانحياز إلى الوزير، والإشادة باختياره. وقد برزت زعامات تويترية تتسم بحدة الخطاب، وتمجد العنف اللفظي ضد المخالف لفكرها، وتعمل على تقريب الأتباع إلى محيطها، ليدقوا بينهم عطر منشم.
لقد كانت حملة شرسة استلوا فيها كل أسلحتهم متأبطين ذلك القاموس المشين، للنيل ممن اختاره ولي الأمر، وفي تلك الحملة المنظمة اعتبروا أنفسهم الشعب والناطقين باسمه، واللافت أنهم توقفوا بعد زيارة الوزير لسماحة المفتي.
ولعل كثيرين يذكرون شيئاً من الحملات التي سبق أن نظمت ضد تعيين بعض المسؤولين الذين حملوا أمانة العمل، فشنوا حملة شرسة لإسقاطهم، مشككين في نياتهم وإخلاصهم!
وفيما يخص مشروعات الدولة لا أنسى أن أشير إلى الحملة التي صاحبت إنشاء جامعة الملك عبدالله، للعلوم والتقنية عبر المنتديات الصحوية آنذاك. ومثله قرار الدولة بتمكين المرأة من العمل في الأسواق التجارية، لاسيما محلات اللوازم النسائية! كذلك الهجوم الممنهج على أكثر من واحدة من عضوات مجلس الشورى.
وتختلف حدة الخطاب باختلاف درجة التعصب، وبالتالي يتركز الانشغال في نبش ما يعتقدونه أخطاء الآخرين، فيشهرون بهم دونما إدراك لشناعة التشهير الذي قد يصل أحياناً إلى حدّ الاتهام بالخيانة أو الكفر. ما يتنافى مع تحقيق مضامين الآية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا.. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا".
على الرغم من أن حملاتهم متوالية عند كل جديد، إذ ترتبط بما يرونه مخالفاً لفكرهم المتشدد، إلا أنهم "كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله". ولا يصح في خاتمة المطاف إلا ما يراه قادة بلادنا الذين يدركون أن ما يفعلونه لصالح الوطن والمواطنين.
إن العمل أمانة، وقد حضّ الدين على تولية من هو قادر، قوة وتأهيلاً على القيام بأعبائها التي أبت أن تحملها الأرض والسموات والجبال: "إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الأنسان إنّه كان ظلوماً جهولاً". وروي عن أبي ذرّ أنه قال: يا رسول اللّه ألا تستعملني؟ قال: فضرب صلى الله عليه وسلم بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذرّ! إنّك ضعيف، وإنّها أمانة، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها"!
من الأسئلة التي تتداعى إلى الذهن هنا هي: لماذا صار سهلاً على بعض المتحمسين رمي الآخر في كرامته ووطنيته ودينه؟ ولماذا كل هذا الحقد والاستعداء على الآخر القريب وكأننا في ساحة حرب؟ ثم ماذا يمثل أولئك الثائرون؟ هل يعبرون عن ذواتهم أم يعبرون عن أشخاص آخرين؟ وإلى متى يظل تويتر ساحة مشرعة لتصفية الحسابات؟ ثم إلى متى يستمر الطعن والتشكيك في بعض قرارات الدولة الخاصة بتعيين مسؤولين أو إقالتهم، من فئة تحركها رؤى أحادية ثأرية ومصالح ضيقة؟ فهل يوجد خلل ما في مفهوم المواطنة الحقة لدى هؤلاء؟ وإذا ما وجد فمن المسؤول عنه؟ لا ريب أن الإشكال جد كبير، والسكوت عنه وعدم أخذه بعين الاعتبار بعد أن استفحل شره، وصار عصا يستخدمونها ضد المخالفين لهم، سيجعله يتعاظم وينتشر في المدارس والجامعات والمجتمع كله، لاسيما أن منتجيه من الرموز الحركية التي لها باع طويل في الخصومات والتحريض، كما أن لهم شريحة عريضة من الأتباع في مواقع التواصل الاجتماعي، علاوة على أن بعضهم ممن يعملون في حقل التعليم العالي، ما يعني ترسيخاً عميقًا لذلك السلوك السقيم إن لم يسارع إلى معالجته.
ينبغي أن يكون انتماء الإنسان للوطن وحده دون سواه، وعندها سينعكس ذلك عليه ازدهارًا ونموًا وتطورًا، وكل انتماء عدا ذلك من حركي وحزبي وطائفي وعشائري، يجب ألا يطغى على أي برنامج عمل خاص أو عام، أو خطط إصلاح. ومما يؤسف له أن الانتماء الإيديولوجي تعاظم خلال العقود المنصرمة على حساب الانتماء للوطن، إذ ارتبط ببرامج سياسية توجه حركة العمل الحزبي صوب أفق ضيق، ما يعطي انطباعًا واضحًا للتفريق بين ما هو موجه لغاية وطنية، وما هو موجه لمصلحة حزبية ضيقة، مما أدى في مواقف كثيرة إلى تمزيق المعاني الحقيقية للعمل الوطني.
كثيراً ما نجح أصحاب ذلك الخطاب في إقفال الأبواب المتاحة لتُفتح أبواب أخرى يصعب إغلاقها، فعندما عبأوا أذهان التلاميذ بمفاهيم اعتبروها الأفضل، ظهر جيل متشدد سهُل انخراط بعضه في زمرة الإرهابيين، وعندما صادروا كل مظاهر الفرح في حياتنا، برز شباب مخرّب فوضوي لا يعرف كيف يعبر عن فرحه إلا إذا كسّر ودمّر، وعندما منعوا وسائل الترفيه من سينما ومسرح وغناء، وسنوا قوانين صارمة على كل مظاهر الحياة الطبيعية من أسواق ومطاعم وحدائق وتجمعات أسرية، اندفع مواطنونا كباراً وصغاراً، أغنياء وفقراء، أسراً وأفراداً، في اتجاه الهجرة الموسمية للدول المجاورة والغربية، وصار بعضهم عنواناً لعدم المسؤولية والتصرفات المشينة والمسيئة للوطن. ما يحدث أمر طبيعي فلكل فعل ردّ فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
ختاماً؛ إننا لا نكاد نجد في خطاب أولئك الحزبيين سوى نبرات التحذير والخوف والتنبيه من الأخطار التي تهددنا والكوارث التي تحدق بنا، ما يؤكد أن الشكّ وعدم الثقة بأفراد المجتمع سمتان متأصلتان في ذلك الخطاب، وهما عاملان مهمان يغذيان أيّ خطاب يرتجف من أي تغيير حتى لوكان تعيين مسؤول لا يتوافق وأمزجتهم الانتقائية، خشية من زعزعة السائد.