يوسف مكي- الوطن السعودية-
المواطنة علاقة مباشرة بين المواطن والدولة، ولذلك ھي تسقط بوجود الوسيط، أيا تكن ذرائعه، لذا ترفض الدول الحديثة الاعتراف بوجود جسد طائفي، سياسي أو حقوقي، يتوسط بين المواطن والدولة
الانتقال بالمذھب من وسيلة إلى فھم فقه وأصول الدين إلى ھوية بديلة عن الھوية الجامعة ،جعل من المذاھب إسفيناً في خاصرة الوحدة الوطنية. فقد تحلقت كل طائفة حول نفسھا، وكفرت غيرھا، ورفعت راية المطالبة بـ"حقوقھا"، سعياً وراء نيل الحصة الأكبر. وفي ظروف كھذه ،تتفتت الأوطان، ويغيب الفعل الجمعي للأمة.
وحين تسعى كل طائفة لنيل حصتھا، تنقسم الأوطان، وتغيب فكرة التنمية الشاملة، ويتحول الوطن لكانتونات ضعيفة، يستند كل كانتون على ھوية خاصة، وثقافة خاصة. وحتى المراكز الرئيسية في الدولة يتم توزيعھا وفقاً لھذا السياق. وبالقدر الذي تتعزز فيه القسمة، وتترسخ الھويات الطائفية، يضعف دور الدولة ،وتفقد ھيبتھا وقدرتھا على إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
وإذا كان ھذا النوع من القسمة مقبولاً قبل نشوء الدولة الحديثة، فإنه ليس مقبولا الآن، لأنه ضد التطور التاريخي، وما أفرزته مسيرة البشرية من آليات وأدوات ومؤسسات حديثة في الحكم.
وليس بالمستطاع تصور وجود نظام تعليمي متطور، أو النھوض بالقطاع الصحي، أو التأمينات والضمان الاجتماعي، في ظل القسمة بين الطوائف. بل ليس بالمقدور، إمكان قيام دولة عصرية ،أو الحديث عن الوحدة الوطنية في ظل سيادة الكانتونات الطائفية. كما أنه من غير المتوقع، صمود كانتونات القسمة، في التصدي لأي عدوان خارجي، فضلاً عن اتفاقھا على مواجھة ھذا العدوان.
ولا يقف الأمر عند ھذه الجوانب السلبية للمشاريع الطائفية، فمخاطرھا على الوعي لا تقل أثرا عن المخاطر التي أشرنا لھا. فالثقافة الطائفية لديھا موقفھا الخاص من التاريخ، وھي تفسره بالسياقات التي تعزز ھويتھا الفئوية. تلتحم الجماعة الطائفية بتفسيرات، دينية، من منظورھا، كما تلتحم الجماعة بعصبية النسب، في النظرية الخلدونية.
تقدم الجماعة الطائفية تفسيرھا الخاص لمنظومة القيم، فيكون لھا موقفھا الخاص، من التاريخ ،بما يحولھا إلى أيديولوجيا خاصة للمنتمين لطائفة بعينھا. فتتحول الطائفة إلى عقيدة اجتماعية ،تؤدي وظائف في تكوين الجماعة، وتحديد أنساق عملھا كجماعة متمايزة. وتصبح الطائفية بديلا عن ھويتھا الوطنية.
بھذا المعنى، يكون الانتماء الطائفي، في مقام الدينامية التي تتشكل بھا الجماعة، وتنظم حركتھا.. وتؤدي الطائفية - بما ھي مجموعة اجتماعية- إلى خلق حالة من الالتباس في العلاقة بين الفرد والدولة والسياسة، بما يجعل من نقدھا أمرا مشروعا.
وللأسف فإن الھويات الطائفية، ليست خارح الوعي، بل إن كثيراً منھا صمم ليخدم أغراضاً سياسية، وبعضھا ھو نتاج لنوازع ثأرية سكنت عميقاً في نفس أمم اعتنقت الإسلام عقيدة، حين بلغتھا جحافل الفتح العربي، ودخلت بلادھا في الإسلام.
دخلت ھذه الأمم الإسلام، ولكن انتماءاتھا القومية، وشعورھا بتفوقھا على العرب، شكلا في اللاوعي، قراءات أخرى ،غير موضوعية، متحيزة ومزيفة للتاريخ العربي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كل طائفة لھا رؤيتھا الخاصة، وقراءتھا الخاصة، وأن ھويتھا وثقافتھا وطقوسھا وأحزانھا وأفراحھا، أخذت بالتشكل من خلال ھذه القراءة، أمكننا التوصل إلى وجود جملة من القراءات، والنتيجة ھي تشويه التاريخ العربي الإسلامي.
ولأن التاريخ ھو روح الأمة، وجغرافيته ھي محتواھا، فإن تشويه التاريخ العربي، يعني في محصلته تشويه روح الأمة. ولذلك يصبح التصدي للطائفية دفاعاً عن الأمة ومواريثھا. وليس من شك في أن مواجھة الكانتونات الطائفية تتطلب تعميم نقيضھا. والعمل على تعميم فكرة الدولة الحديثة، دولة المواطنة، حيث المعيار الأساسي فيھا المساواة بين المواطنين، وتأسيس العلاقات السياسية الحاكمة، على قاعدة ھذا المعيار.
يجب التأكيد في ھذا السياق، على أن الانتماء المذھبي، يقع خارج المجال الاجتماعي والإنساني. أما الطائفية، فإن خطرھا يمكن في أنھا تحيل إلى جماعة اجتماعية وتاريخية. فليس ھناك انسجام بين وظيفة الدين وظيفة الطائفية، على النحو الذي يزعمه منظرو الطائفية في دفاعھم عنھا. فللطائفية وظيفة سياسية، ودورھا الأساس، تفتيتي، لأنھا تقسم الوطن إلى حصص، بينھا وبين الجماعات الأخرى. وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الطائفية كنظام سياسي، لا توفر حلا لمعضلة السلطة والشراكة. فنتائجھا المنظورة أكدت أنھا قنبلة موقوتة للاحتراب الداخلي، وأنھا لم تسھم في توفير أي مساحة للتوافق بين أبناء المجتمع الواحد.
صحيح أنھا تخفي في بعض الأحيان صراعات مكبوتة، لكن ھذه الصراعات ما تلبث أن تنفلت في صور أعتى. بحيث إننا نلحظ تصاعدا مستمرا في الخط البياني، للصراعات، في الدول التي اعتمدت حل التقسيم الطائفي لمعضلتھا السياسية. ثم إن ھذا التقسيم يحمل اعتقادا مضللا بغياب التجانس الوطني، بما يؤثر على صلابة ھياكل الدولة، والوظائف المنوطة بھا.
غلبة الجماعات الطائفية تصادر الشعور بالانتماء إلى كيانية أعلى ھي الوطن، الذي ينبغي أن يكون أعلى من نصاب الطائفة، وأرحب من حدودھا الضيقة والمقفلة. وذلك ما يسھم في إلغاء فكرة المواطنة، التي لا تحتاج إلى وسيط بين المواطن والدولة.
المواطنة علاقة مباشرة بين المواطن والدولة، وھي لذلك تسقط بوجود الوسيط، أيا تكن ذرائعه. ولذلك ترفض الدول الحديثة الاعتراف بوجود جسد طائفي، سياسي أو حقوقي، يتوسط بين المواطن والدولة. إن الحديث عن الحق الطائفي في التربية والتعليم الخاص، والتمثيل في الوظائف وفي الحكومة، على أساس الحصص، يعني أن علاقة المواطن بالدولة ليست علاقة مباشرة، في جميع الميادين، وأنھا بحاجة مستمرة إلى وسيط، وذلك ما يشكل خللا كبيرا على الوحدة الوطنية، واستقرار وأمن وازدھار البلاد.