مجتمع » حريات وحقوق الانسان

البحرين.. خمسة عشر يوماً من «الثورة المضادة»

في 2016/06/17

تأخرت عدوى «العزم» ومتلازمة «الحزم» الخليجي خمس سنوات، قبل أن تطال المنامة. ربما لأن الأمور لم تكن على مستوى النضوج اللازم للانتقال من حال لآخر، ما دام الحراك الشعبي الذي «غزا» شوارع البحرين، على قلّته، بدايات العام 2011، أخذ طابعاً مختلفاً عن سياقات «الربيع العربي» في المرحلة تلك، خاصة لناحية الحدة في الخطابة السياسية الناتجة من الكيانات المعارضة قيد التشكيل، أو حتى في وسائل الاحتجاج التي لم تتخط «السقف الوطني» المقدّر في ذلك الحين من قيادات الحراك. حصل هذا برغم أن التدخل السعودي في ظل «القبة الخليجية» عبر قوات درع الجزيرة، كان يمكن أن يشكل مقدمة مناسبة لتحول «الثورة» الى نماذج أكثر «راديكاليّة» في العمل الشعبي الميداني، على الأقل بالتوازي شكلاً وأسلوباً مع الحراك الشعبي المصري في ذلك الحين.
فشلت القيادة البحرينية منذ بدايات «الأزمة» في عمليّة تلقف الواقع الجديد، والبناء عليه لإنتاج «ستاتيكو» سياسي كان بمقدوره تمرير الفترة الحرجة المصاحبة للفوضى العربية، والانتقال بالمملكة الصغيرة الى وضع أكثر انفتاحاً على احتمالات الحلحلة، خصوصاً في ظل الرغبة الأميركية الواضحة اليوم بلملمة شتات الحلفاء، إثر القراءة الجديدة لاستراتيجية ما بعد الاتفاق النووي مع ايران و «الرحيل نحو الهادئ». لكن الفشل الأهم كان في غياب التقدير الحقيقي والوازن للموقف وقتها. اذ ان الاستعجال والارتجال غير المبررين، شكلا «آليّة عمل» كاملة، رسمت حدود ومديات الخطوات الحكومية طوال الفترة الماضية. وبدت معها المنامة، وكأنها وليدة الأمس، إن في تقنيات ادارة الازمة الداخليّة، أو في اختبارات التحمل في أزمات العلاقات الدوليّة والسياسية.
انطلقت البحرين في تعاطيها خلال الفترة الأقرب لبدء الحراك، من أن حساسيّة موقعها الجيوسياسي، وطبيعة المكونات الأساسيّة الداعمة أو المحركة للشارع، يمكن ان يخلقا لها منطقة عازلة، تقيها من عدوى الفوضى. وربما كانت الصوابيّة في هذه القراءة ترتكز فقط على أن سيناريوهات الانهيار، تعد خطا أحمر في البحرين لغالبيّة المنخرطين في ساحتها، وان لم يكن حيّز العمل الميداني مشرّعا ومتاحا للجميع، كما يحصل في سوريا والعراق وليبيا وبدرجة أقل اليمن. لكن الخط هذا، أثّر تأثيرا عميقا في قراءة القيادة لحدود «انغماسها» في مواجهة كتلة مجتمعيّة ضخمة، فانعكس الأمر تجاهلا غير مبرر لاضطراب مجتمعي وسياسي متواصل للسنة الخامسة على التوالي، واعتماداً غير موفق لسياسات «وقائيّة» كالترحيل والاعتقال ونزع الجنسيات وحتى القتل في بعض الأحيان.
أطلقت السلطات البحرينية في الأسبوعين الماضيين سلسلة خطوات «عمليّة» في مواجهة الحراك الشعبي والمعارضة، يمكن أن توصف بالحد الأدنى بـ «الثورة المضادة». فالعمل هذه المرة لم يقتصر على استهدافات فردية لناشطين أو معارضين، بل جاء «جمعيّاً» بامتياز، وموجهاً ومكثفاً بدرجة مربكة للجميع من مستهدفين ومراقبين. وقد افتتحت المنامة عمليّة «الثورة» هذه بإصدار حكم مفاجئ على الشيخ علي سلمان الأمين العام لجمعيّة «الوفاق» و «الزعيم» المعارض الأكثر شعبية داخل المملكة. الحكم جاء من محكمة الاستئناف التي رفعته من اربعة الى تسعة أعوام، ما يعني حكما تحييد علي سلمان عن قيادة الجمعيّة وتغييبه عن العمل السياسي، بعد سلسلة رسائل حملها ديبلوماسيون غربيون لـ «الوفاق»، تطلب إجراء تعديلات في هيكل القيادة الخاص بالجمعيّة. وهو ما لاقى رفضا قاطعاً، كان الرد عليه عبر تغليظ الحكم على سلمان.
استكلمت المنامة خطواتها التصعيدية تلك، وانتقلت الى ميادين مواجهات اخرى مع النشطاء والمعارضين، حيث منعت «الوفد الأهلي» من المغادرة الى مدينة جنيف السويسرية للمشاركة بأعمال الدورة الـ32 لمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة. والوفد هذا مكوّن من نشطاء ومدوّنين وحقوقيين، ما تسبب بمواجهة «ديبلوماسية وإعلامية» مباشرة بين الخارجية البحرينية، وعدد من الاجهزة الخارجية الاممية وبعض الخارجيّات الغربية. لكنها لم ترقَ جميعا الى مستوى الضغط اللازم لثني المنامة عن هذا الإجراء، ما دفعها الى المباشرة بتنفيذ باقي عناصر «خطتها»، بانسيابيّة شديدة ومن دون مبالاة، ومنها اعتقال الناشط الحقوقي نبيل رجب.
العنصر الثالث في التحرك الحكومي، جاء أكثر بلاغة وتصريحاً للمقبل على البلاد. اذ قررت المحكمة الاداريّة البحرينية في الرابع عشر من الجاري، وقف نشاط جمعيّة «الوفاق» ووضع ممتلكاتها تحت الحراسة القانونية، وذلك بعد ساعتين فقط من شكوى وزارة العدل ضد الوفاق، في خطوة أظهرت ارتجالاً غير طبيعي، في تنفيذ خطوات قد تحمل مخاطر سياسية تتخطى قدرة المنامة على الاحتواء والترقيع. لكن الأسوأ كان على الطريق. اذ قررت الحكومة في اليوم التالي لوقف «الوفاق»، منع الشيخ محمد صنقور من إمامة الجمعة، وهو أحد أبرز أئمة المساجد في البحرين، إضافة لاستدعاء الشرطة عددا من رجال الدين للتحقيق، في مقدمهم السيّد مجيد مشعل رئيس المجلس الإسلامي العلمائي في البحرين.
لم تدرك القيادة البحرينية حتى الآن أن إقفال الملفات ليس منجزا وطنيا، ولا هو ترف ممنوح لكيانات المنطقة، مهما بلغ حجم تداخل مصالحها مع اللاعبين الكبار، وأن الواقع العربي الجديد، خاصة في بلدان «الاضطراب»، لا يمكن أن يقبل دورا للجهاز الحاكم، يعبر فيه من مرحلة «الحراك» إلى مرحلة «السكون» كتلك التي سادت العالم العربي في الثلث الأخير من القرن الماضي. لذا كان من الأولى الاتجاه نحو إنتاج حالة يتداخل فيها «الحزم» مع «الثورة»، لإنتاج طاولة مستديرة تمرر عليها الاستحقاقات، وتفكك من خلالها العقد التي قد تقود إلى الصدام غير المأمول من غالبية الأطراف الأساسيّة. كما أن للتلاقي بين السلطة والمعارضة، قدرة هائلة على حصر «ممثلي الشارع» وقوننة وجودهم على الأقل بالعرف السياسي المؤقت، بما فيه من مصلحة تقوم على منع الأطراف «الأكثر راديكاليّة» من إيجاد «منصة» شعبية، تشكّل لها رافعة لفرض منهجها وأسلوبها في العمل السياسي، خاصة أنها ما تزال في «طور النشوء»، بما في ذلك من «رعونة» عابرة لكل الاعتبارات السياسية البراغماتيّة.
استمرت «الاستشعارات» الخاطئة في التحكم بنسق العمل السياسي للبحرين، خلال فترة تحول «فوضى الربيع» إلى نسخ أكثر عنفاً. هكذا وجدت المنامة أن الطريق باتت ممهدة لتمرير «انقلاب» سلس على الواقع القائم، يفضي في نهاية المطاف الى عودة الأمور لسياق ما قبل العام 2011، وعلى شاكلة يمكن من وجهة النظر الحكومية أن تتلاقى مع «الرؤية» الأميركية للمخارج البحرينية. حيث إن إنهاء الأزمة شكل الأولويّة لدى المنامة بمعزل عن الكيفيّة. وهذا ما كون إرهاصات «لخطيئة» قيد النشوء في السياسة، قد تفضي الى تحول جذري في طبيعة الحراك الشعبي، وتبدل غير محبذ من الجميع، في هوية النخب المعارضة واتجاهاتها وارتباطاتها. وهو ما يعني ضمناً أن النفق المظلم الذي دخلت فيه البحرين، قد يكون «عالما» خالصا من الفوضى المتفلتة، أو في الحد الأدنى قطيعة طويلة الأمد بين «الجهاز الحاكم» وقطاعات مجتمعيّة واسعة، تعيش حاليا عمليّة مكثفة من «العصف الذهني الجمعي»، غير خاضعة لخطوط وحدود المناورة التي رسمتها قيادة المعارضة طوال الفترة الماضية.
عمليّة «الثورة المضادة» جاءت في الشكل والأسلوب، استكمالا لسلسلة خطوات كانت البحرين قد نفذتها طوال السنوات الماضية. لكنها أتت أكثر تجذراً وحدّة من أي وقت آخر، وكذلك أكثر كثافة وتركيزا من ناحية الكم والكيف. اذ بدت المملكة في أسبوعين وكأنها تخضع لعمليّة إعادة هيكلة شاملة للحياة السياسيّة، إنما بأساليب «متقادمة» يصعب على الجميع تمريرها وتبريرها وخلق قبة حمائية ناجحة، تقيها الانتقاد وأموراً اخرى أكثر خطورة. منها عودة المنخرطين في الشأن البحريني الى المربع الأول، وإطلاق دراسة شاملة تتضمن طرح «خيارات» أكثر عمقا لتعزيز عناصر قوّتهم في الداخل. ما يعني أن المملكة دخلت أو أدخلت نفسها، في دوامة جديدة من الأزمات، يرفع فيها حكماً منسوب التدخل الخارجي على شاكلة ضغوط قد تتنوع وتتداخل، ما بين ضغوط الحلفاء المحرجين، باستثناء «الأشقاء الخليجيين»، وضغوط من أطراف الضفة الأخرى قد تكون أكثر «إيلاما».

عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-