مجتمع » حريات وحقوق الانسان

عن حصار حي فلسطين وصراع الأجنحة الملكية في البحرين

في 2016/08/08

ي البحرين، ستة أسابيع مرّت، ليس على القرار القاضي بإسقاط جنسية آية الله الشيخ عيسى قاسم، أحد أهم أعمدة كتابة الدستور الأول للبحرين والذي أصدر في العام 1973، ولكنه الأسبوع السادس الذي يمر على القرية التي يقطنها في الدراز، وهي محاصرة. نعم محاصرة، معظم المنافذ تغلقها الأسلاك الشائكة والحواجز الاسمنتية، وعلى الأهالي الدخول والخروج من نقطتي تفتيش مهينتين.
للوصول الى فلسطين، وفلسطين اسم أحد أحياء الدراز المحاصرة، تحتاج الى تدوين اسمك في مركز شرطة يعتبرك عدوًّا حتى يثبت العكس. لا يستطيع سكان البحرين التي لا تزيد مساحتها عن 220 كلم مربعا، الوصول إلى عزاء ذويهم في حي فلسطين، ولا يستطيع إمام الجمعة الوصول إلى منبره ومحرابه، وعلى الحواجز يُعتقل المصلون. في فلسطين الدراز لا تمرر سلطة النظام من تجاوَز الخمسين كما تفعل سلطة الاحتلال في القدس. في فلسطين الدراز، يُعتقل المسنون وعلماؤهم بتهمة الشروع في صلاةٍ بغير هوى النظام.
مشهدية فلسطينية في الدراز البحرينية هي مشهدية الخيبة ذاتها للسفسطائية العربية النائحة على حلب. فعلى فلسطين الدراز لا نائحة مستأجرة تولول في منابر البترودولار ومنصاته. فمن هناك لا تمر شاحنات تهريب النفط، ولا تعقد صفقات السلاح السوداء. تحاصر فلسطين الدراز لأن إنسانها أعلن إنسانيته ووطنيته ومعتقده، وهي جريمة تكفي لخنقه في الظلام، حتى لا ينزعج النائحون على قاطعي رؤوس الأطفال في حلب.
ومن بين ثنايا إعلانات البحرينيين المستغيثة من مقصلة الاضطهاد الطائفي تتسرب ملامح المشكلة الأكثر تعقيداً، أزمة الاعتراف بالهوية التكوينية للبحرينيين الذين يعتبرهم الملك رعايا فتحٍ أسرته في العام 1783، وهي «غزوة» غير تاريخية على أرخبيل البحرين الذي تعاقبت عليه الدويلات. غير أن ملك البحرين يعتبر غزوة جدّه مشروعاً غير منجزٍ، يجهد في تظهيره من خلال تكرار مصطلح «الفتح» واقترانه بانزياح الاعتراف الرسمي عن تاريخ الاستقلال وانسحاب البريطانيين في 14 آب 1971، إلى يوم تولي الملك وأبيه مقاليد الحكم في 16 كانون الأول.
الأزمة الحقيقية في البحرين تؤشر الى استمرار الملك ومعه بيت الحكم بالتصرف بعقلية الوافد إلى البحرين. حكمهم القلق الدائم من ظهور تاريخ ما قبل حكم آل خليفة، وإخفاء الحواضر الثقافية الممتدة، علماً أن الحاضر يشهد على هدم أو إهمال صروح ثقافية إسلامية وغير إسلامية ممتدة لأكثر من سبعمئة سنة خلت، بعضها أزيل في إطار الحملة الأمنية التي أعقبت اندلاع انتفاضة 14 شباط 2011.
أزمة تتلخص في انعدام الشرعية الميثاقية بين الحاكم والمحكوم بعد تعليق العمل بالوثيقة الوحيدة التي كتبتها لجنة تأسيسية منتخبة (دستور 1973) ونقض بنود الوثيقة الأخرى التي تم التصويت على إنفاذها من خلال استفتاء شعبي («ميثاق العمل الوطني» 2001) واستبدال العلاقة الميثاقية بفرض الأمر الواقع وحصر كل السلطات بيد الملك باعتباره رأس العائلة الحاكمة. وهي الإشكالية التي تحوّل أي أزمة في البحرين إلى انفجار سياسي لا يمكن احتواؤه، ليس بسبب انعدام الثقة فحسب، ولكن لأن مرجعية الأزمة والصراع السياسي تتحول من منطقة النفوذ إلى الوجود. وهذا ما يجعل الملك يعود مع كل هزة سياسية لزيارة استعراضية للقيادة العامة التي يتوزع مناصبها عدد من أفراد العائلة الحاكمة وأحفاد القبائل التي تحالفت معهم في غزوتهم للبحرين.
تبدو المشكلة في تلخيصها صراعاً بين الرجعية التقليدية لمشيخة الخليج مع تقدمية جديدة، غير أن وضع البحرين الجغرافي كجارة لأزمات الخليج يعطي أزمتها السياسية نكهة إقليمية. فحيث لم يعد ممكناً استدعاء الأنصار الخارجيين لغزوة جديدة بعنوان القبيلة، كان الاستدعاء المستحدث بعنوان «درع الجزيرة». غير أن دخول القوة السعودية للبحرين نقل كل مركز الثقل إلى الرياض، لتتجلى صورة الملك كحليف تابع هو الأضعف في منظومة دول «مجلس التعاون».
يبرز ضعف الملك ليس في افتقاده المقومات القيادية، ولكن في عدم قدرته على إدارة الأزمات السياسية، وتحويل عناصر القوة التي منحته إياها المعارضة في العام 2001 إلى عناصر ضعف وعجز عن إنتاج الحلول. وقد تحوّل الملك بسبب سوء أدائه الى عنوان للأزمة السياسية في البحرين، وتفاقم الأمر سوءاً حين تحوّل إلى عنوان لصناعة الكراهية للمكوّنات العقائدية البحرينية.
وبرغم أن المعارضة الإصلاحية تورّعت عن الإخلال بقواعد العمل بدستور 2002 وحاولت تحييد الملك عن النقاط المتفجرة في الأزمة السياسية وإنتاج الحلول بدءاً من التداول السلمي للسلطة على مستوى رئاسة الوزراء، إلا أن الملك عجز عن ملاقاتها في منتصف الطريق. وبرغم إصدار قرارات بالحل الرسمي للفصيل الأكبر بين المعارضة التاريخية المعتدلة («جمعية الوفاق»)، تتمسك أقطاب المعارضة وقياداتها التاريخية بوثيقة المنامة وبنودها الخمسة (1- حكومة منتخبة. 2- دوائر عادلة. 3- قضاء نزيه. 4- أمن للجميع. 5- برلمان كامل الصلاحيات). ولكنها وهي تتمسك بوثيقة المنامة، أصبحت تستمرئ توجيه الاتهام للملك باعتباره رأس الأزمة الذي يمكن المحافظة على الاستقرار بتجاوزه أو تنحيه لمصلحة شخصية أخرى تستطيع استعادة القرار السياسي من الرياض إلى المنامة.
في الرياض أو في المغرب، يبدو ملك البحرين سعيداً في أحضان الملك سلمان. غير أن الملك حمد يعلم أن قراره ارتهن لمصلحة الرياض في خضم تلاطم الأزمات في المنطقة، وقد قاده هذا الارتهان إلى علاقة غير مستقرة مع جارته القطرية والكويتية والإيرانية والعمانية والعراقية، وقلّصت من قدرته على الالتحاف بالغطاء الأميركي المجرّد، وأعادته إلى منطقة التّحكم البريطاني المطلق، وهي منطقة الخطر التي أزاح بسببها البريطانيون وللأسباب التي يعاني منها نظامه، سلفه عيسى بن علي آل خليفة عن سدة الحكم في العام 1923.
واذا كان الكولونيل نوكس قد وصل على ظهر البارجتين الحربيتين « تريا» و «كروكس» في عهد عيسى بن علي قبل أن يتم عزله، فقد افتتح البريطانيون في العام الماضي أكبر قاعدة لهم في الشرق الأوسط على الأراضي البحرينية وسط صراع واضح المعالم بين أجنحة النفوذ داخل العائلة الحاكمة. ولم يعد الملك كشخص يمثل رمزاً للاستقرار في البحرين، بل صار في شخصه مولّداً لأزمات لا تبتعد اشتراطات حلولها كثيراً عن ملخص ما أعلنه نجل عيسى بن علي الذي ولاه البريطانيون الحكم بعد عزل والده. (1- وجـوب الإصلاح. 2- تحقيق التقارب بين فئات الشعب 3- اصلاح القضاء. 4- منع شيوخ آل خليفة من العيش على كاهل الأهالي).
إن تتويج الملك للأزمة السياسية بسياسة الاضطهاد الطائفي لم يختط مساراً جديداً لما تعانيه البحرين، فلم تحدث فتنة اقتتال طائفي بين المكوّنات المحكومة تسمح للسلطة بتمثيل دور الوسيط الوازن، وهي رسّخت صورة رأس النظام كمنتج للأزمات.

حسين يوسف السفير اللبنانية-