مجتمع » حريات وحقوق الانسان

الفجوة بين الواقع والتوقعات في عُمان: صحيفة «الزمن» نموذجاً

في 2016/08/20

مؤخرا شهد الشارع العماني حدثا قد يكون الأكثر وقعاً وصخباً بعد أحداث الحراك العماني سنة 2011، تأثرا بأحداث «الربيع العربي»، وقد يكون الأول من نوعه على مستوى الصحافة العمانية. وفي الحقيقة لا يختلف واقع هذا الحدث عن الحراك سنة 2011 من حيث جوهر الفكرة. حيث صرخ الشعب سابقاً وصرخ اليوم بأعلى صوت مع اختلاف الوسيلة «كفاية فساد». اللافت في الأمر أكثر أن تصل شبهات الفساد إلى القضاء، والمحبط أكثر أن يصل إلى هرم أعلى سلطة قضائية. وبرغم ظهور مواطن عماني عُرف باسم مظاهر التاجر من منفاه الاضطراري قبل قرابة عام ونصف في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» مؤكداً فساد مسؤولين يعتلون أعلى السلطات في الدولة ومن بينهم رئيس المحكمة العليا ورئيس الادعاء العام، وتعاطف ومتابعة عشرات الآلاف من المواطنين للقضية عبر حسابه الشخصي، وتغطية مجلة «مواطن» العمانية للقضية، إلا أن ما حدث مؤخراً من شد وجذب بين المواطنين حول ما نشرته صحيفة «الزمن» من تفاصيل وحقائق تدين فيها هرم أعلى سلطة قضائية ورئيس الادعاء العام تعد سابقة وضربة مؤلمة لعصر النهضة العمانية كما تفضل الحكومة العمانية الرشيدة أن تطلق عليها، لا سيما بعد ما نشرت شهادة نائب رئيس المحكمة العليا مؤكداً فيها صحة تورط المسؤولين بقضايا فساد ورشوة ومخالفة النظام الأساسي للدولة.
بيد أن ردة الفعل التي اتخذتها السلطة، وهنا لا أعني الحكومة، لا تقل دهشة عما نشرته «الزمن» في أولى صفحاتها في ثلاثة أعداد متفرقة، عندما اعتقلت رئيس تحرير الصحيفة ومسؤول التحرير وأبرز صحافييها وإحالتهم للمحاكمة، وتوقيف الصحيفة عن العمل وإغلاق موقعها الإلكتروني، ورفع الحصانة عن نائب رئيس المحكمة العليا للتحقيق معه، وإصدار بيان من وكالة الأنباء العمانية الرسمية باسم «مصدر مسؤول» يتحدث فيه عن حرية التعبير وأخلاقيات الصحافة في الوقت الذي يغيب صحافيو «الزمن» خلف القضبان ويتم توقيف الصحيفة عن العمل. واللافت في الأمر أن هذا المصدر المسؤول لم يصرح عن اسمه! وما يهمني أكثر كمتابع لهذه القضية منذ بدايتها طبيعة الموقف الشعبي من القضية، كذلك غياب دولة المؤسسات عن متابعة سير مجرياتها، وهذا ما سأحاول تفصيله في الأسطر القادمة.

الموقف الشعبي
من الصعب أن نفصل بين قضية «الزمن» وما نشرته من ملفات فساد وقضية المواطن مظاهر التاجر، حيث أن المسؤولين المتهمين في صفحات «الزمن» سبق أن اتهمهم مظاهر التاجر بالفساد. ولهذا عنونت «الزمن» أولى صفحاتها في أول عدد حول القضية: رئيس المحكمة العليا في الواجهة من جديد بعد «قضية مظاهر التاجر»، جهات عليا تغل يد العدالة، فضلا عن أن بعض أدلة الفساد التي نشرتها «الزمن» سبق للتاجر نشرها. قبل عام ونصف نشرت مجلة «مواطن» في عددها السادس العاشر نتائج استطلاع قامت به المجلة بمشاركة 816 مواطنا، استطلعت من خلاله رأي الشارع من قضية التاجر. وجاءت أبرز النتائج كالآتي: 80 في المئة من المشاركين يعتقدون أن القضية عامة ترتبط بحقوق المواطنين. 65 في المئة من المشاركين بعد متابعتهم تفاصيل القضية يدعون الحكومة إلى محاسبة المسؤولين المتهمين. 76 في المئة يرون أن هناك انتهاكات قانونية تمس حقوق المواطن شبيهة بالانتهاكات التي تحدث عنها التاجر. وفي استطلاع قام به التاجر مؤخراً عبر صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» بمشاركة 7960 مصوتا، طلب 93 في المئة من المشاركين تدخلا عاجلا من السلطان لأن الموضوع في غاية الخطورة بحسب رأيهم. وفي استطلاع آخر قام به التاجر أيضا بمشاركة 3936 مصوتا، أكد 94 في المئة من المشاركين بوجوب تنحية ومحاسبة المتورطين بعد تأكيد نائب رئيس المحكمة العليا حقيقة تورطهم.

غياب المؤسسات وتغييب الشعب
لا ينكر عاقل التأثير الكبير الذي أحدثته القضية بين أوساط المجتمع العماني، وأصدق دليل على ذلك عدد المتابعين لحساب التاجر عبر موقع التواصل «تويتر» الذي تجاوز 100 ألف متابع. مع الـتأكيد أن الحساب غير مهتم لأي شأن آخر إلا متابعة مجريات هذه القضية، فضلا عن التداول اليومي الضخم لأخبار القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وبرغم أن القضية باتت قضية رأي عام، وتم إيقاف أحد أبرز الصحف اليومية الخاصة الذي لفت انتباه المجتمع الدولي للقضية لاسيما المنظمات الحقوقية وبعض الصحف العالمية، إلا أن هذه القضية أوضحت للمواطن بشكل جلي غياب دولة المؤسسات. لم يكن هناك أي حراك لمجلس الوزراء، ولم يكن هناك أي حراك للبرلمان! وبين ليلة وضحاها تقوم سلطة مجهولة باسم «مصدر مجهول» بالانقلاب على إرادة الشعب ولم تبال لكل تلك المئات من الآلاف من أصوات الشعب وضربت بها عرض الحائط. وهذا ما عده الكثير من المواطنين انقلاباً على إرادتهم وتهميشا لدعوتهم في تدخل السلطان قابوس لحل المشكلة. كل هذا دفع بعض المواطنين لتساؤلات مشروعة، أين السلطان قابوس عن كل ما يجري في البلد؟ من الجهة التي تدير شؤون البلد التي عرفت نفسها «بالمصدر المسؤول»، لا سيما في هذه المرحلة الحرجة من عمر عمان التي قد تشهد انتقالا للسلطة في أي وقت ما؟
هل عدم معرفة السلطان قابوس بسير مجريات أحداث البلد وحتى أهمها وأضخمها بحكم مرضه، يعفيه من المسؤولية الإدارية والقانونية والأخلاقية، ونحن نعلم أن السلطان قابوس هو من رفض التنازل عن أي من صلاحياته ومناصبه التي يحتلها بجانب كونه قائد البلد مثل: رئيس الوزراء، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، ووزير المالية والخارجية والدفاع، وغيرها من المناصب الأخرى، وهو من عين ويستطيع هو فقط إقالة كل الأسماء المتورطة في شبهات الفساد؟ لكن لنفترض خلاف ذلك، السلطان يعلم بتفاصيل كل ما جرى وما يجري، ما هو الموقف الشعبي من ذلك لا سيما أن غالبية الشعب وحتى مسؤولي صحيفة «الزمن» كانوا ينتظرون تدخله لحمايتهم وإرجاع هيبة القضاء والدولة. أليس كان من الأولى تنحية كل المسؤولين الذين طالتهم شبهة الفساد، تلبية لرغبة ومشاعر جماهير الشعب؟ ولهذا السبب هناك فجوة كبيرة تتسع كل يوم بين مستوى سقف توقعات الشعب ومدى ثقتهم بالحكومة والسلطان. وأزعم أنها في أعلى مستوى لها ووصلت لمرحلة خطيرة قد تربك الاستقرار خاصة بعد شغور منصب السلطان. وكل المعطيات تشير إلى أن السلطة لم تتعلم من الدرس السابق، وأعني حراك 2011 عندما اتكأت على مستوى الخوف الذي زرعته في نفوس المواطنين طوال السنوات الـ 40 السابقة وأيضاً على مستوى سيطرتها على المعلومة، ولم تتوقع نهائيا قدرة الشعب في التعبير عن غضبه ميدانيا. لكن هل من المعقول أن من كان جزءاً من المشكلة وساهم في تفاقمها ولو كان بصورة غير مباشرة، أن تحال له المشكلة لحلها؟ هذا الرهان كان ما زال موجودا قبل انقلاب «المصدر المسؤول» على إرادة الشعب. السؤال الآن هل ما زال موجودا؟

عُمان الغد
بيد أنه بعد كل ما حدث من امتهان لكرامة المواطن ومحاولة تغييب صوته، هل أدرك المواطن العماني بالتجربة العملية أن عمان ليست دولة مؤسسات كما تزعم سلطتها، بل يتحكم في مفاصلها مجرد شخوص؟ هل أصبحت صورة الفساد وحجمه وعمقه في الدولة، وما هي مصادره ومن هي رؤوسه، واضحة المعالم؟ وبرغم حالة التشاؤم الشعبية التي تلت مباشرة انقلاب المصدر المسؤول، إلا أني متفائل بأن المواطن بات يدرك أهمية وجود دولة المؤسسات بدل الاعتماد على تدخل السلطان في حل مشاكله، ورفع سقف مطالبه، من مطالب فرعية في إزالة الشخوص إلى مطالب أساسية وجوهرية تضمن له كرامته وحقوقه وأمنه وحريته والمحافظة على أمواله. وأكبر برهان على ذلك ما حدث في حراك 2011 عندما طالب المتظاهرون بتغيير بعض المسؤولين وتمت إقالتهم، هل عمان صعدت للأفضل؟ هل حجم الفساد تقلص؟ فأزمة عمان ليست مع الشخوص قدر ما هي مع النظام الذي يساعد في فساد واستبداد المسؤول ولو كان صالحا. لهذا، الدعوة لإقالة الفاسدين يجب ألا تنسي المواطن المطالب الرئيسة والأهم التي ستوجد مزيداً من النمو والشفافية والرقابة مثل مطلب الدستور التوافقي الضامن لوجود سلطنة دستورية، ومحكمة دستورية، وفصل تام للسلطات الثلاث، مع إعطاء البرلمان الصلاحيات التشريعية والرقابية الكاملة.
وأختم حديثي برسالة إلى من ينظر إلى السلطان كأب ووجب احترامه وتجاوز تقصيره وهفواته. لا أحد يستطيع أن يمنعك من حب قائدك، لكن إسقاط مفهوم الأبوة على الحاكم بهذه الطريقة يلغي مفهوم دولة المؤسسات، التي تنادي بها. الدولة ليست أسرة، وعلاقة والد بأبنائه، بل علاقة حاكم بمحكومين، كل له حقوق وعليه واجبات، والرقابة تقع على الطرفين. كيف نطالب بدولة حديثة تكون المواطنة مركزها، والمؤسسات منهجها ونحن نسقط مفهوم البيت وطبيعته الأسرية على طريقة إدارة الدولة؟ ولهذا المواطن ليس مجبراً أن يحب قائده، قدر ما عليه تنفيذ واجباته اتجاه بلده. وإذا أحبه لا يعني أن يتناسى أخطاءه لأن اختفاء الرقابة يعني سقوط دولة المؤسسات.

السفير اللبنانية-