مجتمع » حريات وحقوق الانسان

الجنسانية الذكورية في خطاب الوهابية وممارستها

في 2016/08/26

عندما نقرأ بعض المعالجات التحليلية التفسيرية للظواهر الجنسانية الذكورية في خطاب وممارسة التيارات الإسلامية الفاشية من الوهابية إلى أولادها («القاعدة» و «فتح الشام» و «داعش») نرى أنها تربط ظهور هذه الظواهر بالموروث العربي الإسلامي، من دون البحث عن الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لبقاء هذا الموروث أو حضوره في خطاب هذه التيارات وممارستها، وفي الوقت نفسه نرى أن هذا الربط يوحي بأن قضية الجنسانية الذكورية محسومة في موروثنا العربي الإسلامي. من هنا كان لا بد من عودة سريعة إلى موروثنا للتدقيق في هذه القضية قبل أن نبدأ تحديد الأسباب وراء حضورها في خطاب الوهابية وممارستها.
ففي قضية الجنسانية الذكورية في موروثنا نقف أمام خطين: الأول هو خط رافض للجنسانية الذكورية ويمتد من أبي ذر وسلمان الفارسي وعامر العنبري وأتباعهم، مروراً بالزهاد والمثقفين، أمثال المعري، وصولاً إلى أقطاب التصوف مثل إبراهيم بن أدهم والبسطامي ومعروف الكرخي وابن عربي وأنصارهم. وضمن هذا الخط أيضا نجد آراء بعض الفلاسفة المناصرة للمرأة، كابن رشد، من دون أن ننسى تجربة القرامطة والفاطميين (الدروز) بإلغاء تعدد الزوجات. ونستطيع أن نحصر رفض هذا الخط بما يلي: أولاً٬ رفض تعدد الزوجات والالتزام بالزواج بواحدة أو الامتناع عن الزواج. ثانياً، رفض التسري أو امتلاك الجواري. ثالثاً، رفض عملية السبي في الحروب. رابعاً، رفض تصور الجنة كمكان لتلبية الغرائز الجنسية. خامساً٬ رفض التعامل مع المرأة على أنها عورة وأداة للجنس. وقوة هذا الخط تتجلى في رفضه هذه الظواهر برغم الإباحة الشرعية النصية لها في القرآن والسنة وبرغم المجتمع الأبوي الذكوري المسيطر. وهو أمر لطالما أكده وشدد عليه الباحث التاريخي هادي العلوي في معظم كتبه، لا سيما «فصول عن المرأة» و «مدارات صوفية»، وما أكدته أيضاً كتابات أقطاب التصوف البسطامي أو ابن عربي نموذجاً. أما الخط الثاني فيشمل أهل الحكم وجيرانهم من الأغنياء، يزيد بن معاوية نموذجاً، وقسم كبير من الفقهاء وعلماء الدين مثل ابن قيم الجوزية والطوسي وابن تيمية (برغم أن هذا الأخير لم يتزوج ولكنه أسس فقهاً قائما على الجنسانية الذكورية)، وهنا يظهر القبول بالتسري والسبي وتعدد الزوجات والتعامل مع المرأة على أنها عورة وأداة للجنس، والنظر إلى الجنة على أنها مكان لتحقيق اللذة الجنسية الدائمة. أما بالنسبة إلى الـــعامة، فهم أقرب إلى الخط الأول الرافض للجنسانية الذكورية، وذلك لأسباب كثيرة، منها العجز المادي كما أرتأى الباحث التاريخي هادي العلوي.
وبالعودة الى المضمون الفكري للوهابية، نجد أنه ينتمي إلى خط الجنسانية الذكورية، خاصة فكر وفقه ابن تيمية. فالمرأة عند هذا الأخير عورة ومنبع للإثم والمعصية وأداة للجنس ولا وظيفة لها إلا إشباع الغريزة، وهي بحكم الأسيرة للزوج أو المملوك له وعلى المملوك والعبد الخدمة، وغيرها من الآراء التي يشترك فيها مع غيره من أتباع خط الجنسانية الذكورية من كل المذاهب والفرق من تعدد الزوجات مروراً بالتسري وصولاً إلى جواز زواج الطفلة الصغيرة (انظر: السمهوري، رائد، نقد الخطاب السلفي ـ ابن تيمية نموذجا ـ دار طوى، لندن، من ص 94 إلى ص 126).
بعد العرض المقتضب لتعدد المنظورات داخل التراث الإسلامي، السؤال الذي ينبغي طرحه هو الآتي: لماذا استحضرت الدعوة الوهابية من الماضي فكر وفقه ابن تيمية وأمثاله المغرق بالجنسانية الذكورية؟ الإجابة كامنة في الحاضر، أي في الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي نشأت فيه الدعوة الوهابية.
فلو قمنا بقراءة تاريخية مقتضبة للوهابية، ندرك حينها أن خطاب الممارسة الجنسانية الذكورية للوهابية المستحضر من الماضي هو مناسب لبنية اجتماعية تجارية قبلية ذكورية كانت الوهابية انعكاساً لها، أي مجتمع الجزيرة العربية في أواسط القرن الثامن عشر في سياق تاريخي محدد بفترة بداية أفول الدولة العثمانية وبداية التوسع الاستعماري الأوروبي، أي بداية دخول العالم العربي في منظومة النهب الرأسمالي. وإذا تتبعنا توسع الدعوة الوهابية وانتشارها، نستطيع أن نفهم أسباباً أخرى لنمو خطاب الجنسانية الذكورية وترسخ الممارسة الناتجة منه. فالوهابية لم تنتشر إلا عندما اندمجت بمشروع وحركة آل سعود المدعومة من الاستعمار البريطاني والتي أدت بالنهاية لنشوء دولة عرفت باسم «المملكة العربية السعودية». بقيت هذه الأخيرة مدعومة بريطانياً حتى البروز القوي للإمبريالية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية٬ حيث تابعت المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة دعمها ورعايتها للأسرة الحاكمة في المملكة٬ أي أن النظام السعودي نشأ وترعرع وانتشرت أيديولوجيته (الوهابية) عربياً تحت حماية المراكز الرأسمالية، ليصبح بذلك جيباً وظيفياً يمنع أي حركة تحررية في عالمنا العربي ويضمن استمرار النهب المنظم لثرواته وخاصة النفطية منها. من هنا نستطيع القول إن توسع وانتشار خطاب الوهابية القائم على الجنسانية الذكورية عربياً يعود إلى رعاية المراكز الرأسمالية وحمايتها، وذلك لسبب جوهري مفاده أن هذا الخطاب الذكوري والممارسة الناجمة عنه منسجم مع سياسة هذه المراكز إزاء عالمنا العربي. فالممارسة الجنسانية الذكورية تبقي المرأة خارج الفاعلية الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي يسهم في عملية بقاء مجتمعاتنا ملجومة التطور وفي حالة من التخلف والتفتيت الدائم، أي البقاء ضمن دائرة التبعية الاقتصادية لهذه المراكز الرأسمالية. ونرى في الوقت نفسه أن هذه الممارسة متآلفة أيضاً مع سياسة الأنظمة أو النخب الحاكمة في العالم العربي التي تعمل دائماً على ترسيخها وحمايتها بالوسائل الفقهية والفكرية والإعلامية، لأن الممارسة الجنسانية الذكورية تسهم في إبعاد المرأة العربية خارج دائرة الاعتراض السياسي على هذه الأنظمة. في المقابل، عندما تبرز حالة فكرية إسلامية معاصرة تستحضر خطاب الخط الأول الرافض للجنسانية الذكورية كحالة النسق الفكري الذي أسسه الشهيد محمود محمد طه القائم على تأويل النص القرآني تأويلاً معاصراً يتناسب مع قيم التحرر الاشتراكي والذي يرفض فيه تعدد الزوجات والرق ويقرّ بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، عندها نشهد الهجمة الكبرى على هذا الخطاب من قبل السياسة الرأسمالية في الأطراف، لذلك كان مصير محمود محمد طه الإعدام بينما كان للوهابية الدعم والرعاية.
وأخيراً نقول إن أي قراءة ترجع مسألة الجنسانية الذكورية في خطاب وممارسة التيارات الإسلامية الفاشية إلى الموروث الثقافي الإسلامي من دون توضيح للأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لحضور هذا الشكل من الموروث في البنية الاجتماعية الحالية هي قراءة تجعل المؤسسات الحاكمة في المراكز الرأسمالية والأطراف التابعة لها بريئة من عملية حماية الممارسة الجنسانية الذكورية ورعايتها. فالحاضر لا يستحضر الماضي إلا لأهداف ولغايات سياسية واجتماعية واقتصادية قائمة في الحاضر.

محسن المحمد- السفير اللبنانية-