مجتمع » حريات وحقوق الانسان

المجاهرة بالفرح

في 2016/08/30

لعل بعضا من القرَّاء ومنهم كاتب هذه السطور قد صُدموا من الخبر المنشور في الصفحة الأولى من صحيفة الوطن الإثنين الماضي، والذي جاء فيه أن : "3 سعوديين بمنطقة عسير يواجهون السجن 3 أشهر والجلد 90 جلدة نظير عزفهم على الآلات الموسيقية باستخدام المكبرات الصوتية ولبس أحدهم سوارا أثناء إحياء حفل في أبها، ودفع المتهمون بأنهم لا يعلمون أن ما قاموا به ممنوع باعتبار أنهم يمارسون عملهم هذا منذ سنوات في مختلف محافظات ومناطق المملكة. والتهم الموجهة إليهم هي: المجاهرة بالمنكر، العزف على آلات موسيقية، استخدام مكبرات الصوت، إزعاج السكان والمارة".

لا أكتمكم أن الخبر بدا لي للوهلة الأولى على أنه نكتة، أو هو كذبة من النوع الأبيض، فاعتقدت أنه يحمل في ثناياه تفاصيل أخرى مختلفة تماما عن تلك الواردة في العنوان، سيما أننا اعتدنا أن تكون العناوين مثيرة من أجل جذب القرّاء ولفت انتباههم، غير أن المشكلة كانت في التفاصيل والتهم الموجهة إلى الشباب وليست في العنوان، فلك أن تتخيل منطقة سياحية تتعامل هكذا مع الفرح!، فالخبر وإن بدا بسيطاً في ظاهره، لكنه في دخائله وأبعاده وتأثيراته عميق جداً، فهو ليس مجرد خطأ شبيه بأي خطأ آخر، لا يكاد يخلو نظام في العالم من الوقوع فيما يشبهه، ولن يقلقنا حدوثه لثقتنا بإمكانية تعديله وإصلاحه من جهات عليا اعتدنا أن تكون حريصة على ألا تحدث أخطاء، خاصة عندما يتعلق الأمر بحقوق الناس وحرياتهم، ولذلك كان من الممكن أن يتم التعامل مع هذه الحادثة بشكل بسيط ونمُرّ عليها دون توقف، فنقول عنها إنها شاذة وغير مألوفة، أو نتعامل معها على أنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، لأننا في النهاية نثق بقضائنا وقضاتنا ونتفاءل بالخطوات الجادة لتطوير القضاء، ومن ناحية أخرى فإننا ولأسباب تتعلق بالعدالة وخصوصية القضاء، كان من الواجب علينا التزام الصمت إزاء جميع القضايا قبل إصدار الأحكام، حتى لا يكون هنالك تأثير على سيرها، ولئلا يقع القضاة الأفاضل تحت ضغط الرأي العام، فتتأثر بذلك أحكامهم، لكن الأحكام بعد صدورها قد يكون لنا بعض الحق في تناولها وإلقاء الضوء عليها، على اعتبار أننا مكملون لبعضنا البعض، حتى يكون بمقدور جهاتنا الحكومية أن تحصل على تقييم من خارجها، فترى عوامل القوة وتعززها، وأسباب الضعف وتعالجها، وكل جهة لا تهتم بتقييم خدماتها ومعرفة رأي الناس فيها لن تتطور، وستظل تراوح مكانها مهما اعتقدت أنها قطعت مسافات طويلة في رحلة التطوير والتقدم.

قلت وسأكرر القول مرة بعد مرة إن القرارات الحكومية والأحكام القضائية لها تأثير لا يستهان به على الشباب في مجال تعزيز قيم المواطنة، ولربما بعثنا إليهم برسائل سلبية من حيث نشعر أو لم نشعر، فحين يُدعَون إلى احترام التنوع والتعدد والاختلاف ويُقال لهم: (لا إنكار في خلاف)، ويطالبون باحترام أنظمة الدولة وقوانينها، ثم يَرَون من يطالبهم بذلك يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، فسيشعرهم ذلك بعدم الجدية في ترسيخ هذه المبادئ، وبعدم الرغبة في القضاء على ظاهرة الاحتساب العشوائي في الشوارع، وسيقودهم ذلك إلى عدم احترام القوانين والأنظمة. فهل من المعقول أن يكون العزف على آلات موسيقية باستخدام مكبرات صوت يرقى إلى أن يكون جريمة يعاقب عليها القانون!

فنحن لم نتفق بعد على تحريم ذلك فضلاً عن تجريمه، ولنبحث عن أعذار نبرر بها تناقضاتنا في تجريم ذات المسألة وعدم تجريمها، فمن المعروف أن كثيرا من مهرجاناتنا ومناسباتنا الثقافية والاجتماعية والوطنية لا تخلو من الآلات الموسيقية واستخدام مكبرات الصوت وحتى إزعاج السكان والمارة أحيانا، ومع ذلك تتم برعاية وبإشراف مباشر من بعض المسؤولين، ولن يكون لذلك من تفسير في نظر الشباب إلا أن يكون هناك أناس خارجون عن القانون، وسيعزز ذلك في نفوسهم مبدأ الاحتساب العشوائي، فينكر كل منهم بحسب استطاعته، والإنكار باليد هو أعلى درجات الحسبة على كل حال!

ولذلك كان من الواجب علينا ألا ننكر على تلك المحتسبة قطعها السلك في مكان عام قبل أسابيع، ما دمنا نرى الإنكار جائزاً حتى في المسائل الخلافية، فأغلب الظن أنها تعرف أن إزالة المنكر باليد يجب أن تتم من قبل الدولة، لكنها على ما يبدو رأت أن الدولة قد تكون متسامحة في ذلك، بل مُعينة على ما هو منكر في نظرها، فرأت أن إيمانها يُحتِّم عليها الإنكار باليد، وليكن بعد ذلك ما يكون!، كما أن ضبابية المنكرات وعدم وضوحها، حين يقابَل بعدم الاعتراف بمبدأ (لا إنكار في خلاف) من قبل بعض الجهات سيعطي للمتطرفين ذريعة في ممارسة الإنكار بالقوة تجاه كل ما يعتقدون أنه منكر، وسينظرون إلى حضور مسؤولين كبار لمهرجانات ثقافية ووطنية على أنه إعانة على منكر، ولكل واحد منهم الحق في أن يزيله بطريقته وبقدر استطاعته، كما أنه حتماً سيجد أناسا يدافعون عنه بحماسة شديدة، ويدعون الله أن يكثر من أمثاله، ولربما انهالت عليه الجوائز والهدايا والهبات نظير كسره قوانين الدولة وأنظمتها، كما حدث مع أختنا المحتسبة قاطعة السلك، عندما انهالت عليها التبرعات من كل جانب، فهل صرنا مجتمعاً مزدوج الشخصية يقول شيئا ويفعل شيئا مخالفا له تماما، لكن ما أنا متأكد منه هو أن الذين يشجعون على مخالفة القوانين والأنظمة ويدعون الناس إلى الخروج عليهما هم شركاء في الجريمة، وأولى بالعقوبة من أناس لم يفعلوا أكثر من المبالغة في التعبير عن الفرح.

شافي الوسعان- الوطن السعودية-