مجتمع » حريات وحقوق الانسان

يا معالي الوزير.. الموظف ليس «شمّاعة» لفشل أنظمتكم

في 2016/11/16

إنتاجية الموظف لا تزيد على ساعة، تصريح غير متوقع من رأس الهرم الوظيفي في الدولة والمسؤول الأول عن الخدمة المدنية، تناقلته وسائل الإعلام العالمية بكثير من التهكم، وقابله الإعلام المحلي ووسائل التواصل الاجتماعي بكثير من الرفض والاستعداء الشخصي لمعاليه، أسفر عن حزمة من المعلومات المصحوبة بوثائق تعكس حدة التشنج والغضب الذي احتقنت به القلوب.

ردود الأفعال كانت سريعة، إذ استحوذت شبكات التواصل الاجتماعي على النصيب الأكبر منها، بغض النظر عمّا تناقلته هذه الشبكات، فإن الملاحظة الأولى التي تسجل ضد الوزير هي أن كلاماً من هذا القبيل لا يمكن أن يمرر من دون أن يكون موثقاً بدراسات رصينة، خصوصاً من مسؤول بهذه المكانة الرفيعة، لأنه ينطوي على اتهام صريح للموظف بالكسل والتراخي، وكأن معاليه يلمح إلى أن الموظف سبب رئيس في كساد موازنة الدولة. في نقاشي هذا لن أكون أيضاً متسرعاً في القبول أو الرفض على إطلاقهما، وسأسلم بادئ ذي بدء بما قاله معاليه على أنه جزء من حقيقة تناولتها بعض الدراسات في سياقات مختلفة، وسأسأل معاليه ليس من باب الاستجواب إنما التوضيح لمعرفة أسباب هذا الكسل الذي اتهم به شباب الوطن، وأقول: يا معالي الوزير من هو المتسبب في هذه النتيجة؟ أليست هي أنظمة وزارتكم التي عفا عليها الزمان؟! لاحظوا أنا أتحدث عن أنظمة وزارة الخدمة المدنية القابلة للنقاش، لا أنظمة دينية أو سياسية أو أمنية، تسألني كيف؟ أجيبك من واقع عملي سنوات طويلة عاصرت خلالها مسؤولين كثر، فأول ما التحقت بالوظيفة كان المسؤول آنذاك شعلة من النشاط، اكتشف قدراتنا وأعطى كل موظف قدر ما يستطيعه، لا تستغربوا إن قلت لكم إنني وزملائي كنا آنذاك مستعدين لإنجاز أي شيء من دون ممانعة بل بفرح غامر، ليس لأن النظام كان يجبرنا على ذلك، بل لأن المسؤول ذاك كان يدرك معنى تدوير الموظف على كل الإدارات خصوصاً الفنية منها، ما عرَّضنا لاختبارات صعبة عدة، ولأنه نزل معنا في ميدان العمل على رغم مسؤولياته الجسام تحملناها، لذلك تعلمنا منه روح المثابرة والإخلاص، فلم نكن نستهين بأي شيء يسند إلينا، بما في ذلك المهمات التي يقوم بها العمال، كان وقتنا ينقضي سريعاً مع الإرهاق المحبب الذي كان يتوجنا كموظفين نشطين، ويخلق داخلنا بهجة لا تضاهى.

هل تعلم يا معالي الوزير كم كنا نشتغل يومياً؟ كانت أكثر من ساعات الدوام الرسمي، لا تستغرب! لأننا أحياناً لا نخرج حتى ننهي ما بأيدينا، لماذا؟ ببساطة شديدة لأن استشعارنا لأهمية هذا العمل لنا وانتماءنا إليه بشكل كامل خلق لدينا روح التضحية والمثابرة، لم نئن أو نشكو الأمراض الصدرية والجلدية التي تباغتنا بين الفينة والأخرى جرّاء الأغبرة والمواد الملوثة التي كنا نعمل عليها، ومع ذلك لم نطالب وزارة الخدمة بتعويضات، صدقني هذا ومثله يتكرر في كثير من المؤسسات المظفرة بمسؤولين حقيقيين يدركون معنى المسؤولية، ولكن ما الخلل الذي يحدث ويدمر هذه الروح بمعنوياتها العالية لدى الموظف، واسمح لي أن أكون صريحاً معك فالمقصود ليس شخصك الكريم يا معالي الوزير، بل شخص نظامكم الذي أعطى المسؤولين كل الصلاحيات داخل المؤسسات ليكون هو الآمر الناهي، وبين يديه حفنة من المكتسبات التي تُسيل لعاب أي مسؤول متطلب، وبها يستطيع التحكم بالموظفين وجعلهم خدماً بين يديه، ما دام لا يتعامل معهم وفق قدراتهم ولديه أجندة خاصة تركت له دون غيره وأطلق له عنان المسؤولية الكاملة من دون مساءلة، لذلك تجرأ بعض المسؤولين في مؤسسات الدولة على استخدام هذه الصلاحيات لأغراضهم الشخصية ومآربهم الخاصة، فمن يخدمه يُخدم، ومن هنا تبدأ عمليات التشذيب والنحت، التقريب والإقصاء، حتى تعلَّم موظفو الدولة الخنوع وأصيبوا بما يشبه الصَّغَار، فقط كي لا تجري عليهم عمليات التصفية والحرمان من الترقيات والانتدابات والدورات الخارجية والداخلية أو خارج دوام يستطيع بها تسديد ديونه، يا معالي الوزير هذه الأنظمة «مشيخت» بعض المسؤولين وجعلتهم مستبدين بالقرارات والمشاريع وكل المقدرات التي بين أيديهم يمنحون من يشاؤون بما يشبه الشرهات، وأوجدت موظفين جبناء، أسأل معاليكم هل يحدث هذا في المؤسسات التعليمية والأجهزة العسكرية أو الشركات العملاقة كـ«أرامكو»، يا معالي الوزير المؤسسات الحكومية ليس ليها أجندة عمل سنوية تقدم من خلالها إنجازاتها، فالتقارير السنوية أشبه ما تكون بـ«الكلاشيهات» التي لا تحمل صدقيتها - في بعض منها – ثقل الأحبار التي كتبت بها، يا معالي الوزير هل تعلم أن هذه الأنظمة تسمح بتمرير كل الأشياء من دون مساءلة أو مراقبة ما دامت الأوراق تضبط على هوى ومزاج المسؤول، الذي فهم جيداً أن لغة التفاهم بينه ووزارة الخدمة المدنية ووزارة المالية هي هذه الأوراق، لذلك لن يغلب «حماره» في أن يصوغها خلال سنة مالية وفق الشروط والضوابط المطلوبة.

هذه يا معالي الوزير حال عامة تبوء بها كثير من مؤسسات الدولة، لذلك باتت أشبه ما تكون بشؤون اجتماعية الموظف فيها يأتي ساعات معينة من دون أدنى عمل فقط لأجل الراتب وهذا ما تقرّه أنظمتكم، أليس المعول عليه في دوام الموظف هو الوقت؟ إذا لا تحاسبه على الإنجاز بل الحضور والانصراف، وحتى الحضور والانصراف في ظل الأوضاع الطاردة للموظف مشمول بكثير من الثغرات. يا معالي الوزير إن أردتم موظفين حقيقيين يعملون بصدق فلا مناص من إعادة النظر في كثير من أنظمتكم، وأولها انتزاع كل الصلاحيات المطلقة المتروكة بين أيدي المسؤولين، والاعتماد على أنظمة أخرى أكثر دقة في تقييم أداء الموظفين، وليكن الإنجاز سيد الموقف وإلا فالحال سيظل على ما هو عليه والموظفون غير ملامين.

محمد المزيني - الحياة السعودية-