ميدل ايست آي- محمد المصري - ترجمة الخليج الجديد-
في بادرة غير مسبوقة، أطلقت 3 منظمات كبرى معنية بحماية الصحفيين ما سمته بـ"المحكمة الشعبية للتحقيق في قتل الصحفيين" في لاهاي، وستعقد جلساتها حتى اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 مايو/أيار 2022، ومن المقرر أن تنظر في 3 قضايا بارزة تشمل مقتل "نبيل شربجي" في المعتقل بسوريا عام 2015.
وتمثل هذه المحكمة، التي أطلقتها "لجنة حماية الصحفيين" و"مراسلون بلا حدود" و"فري بريس أنليميتيد"، فرصة لزيادة الوعي بجرائم الأنظمة ضد الصحفيين الذين تستهدفهم الحكومات القمعية.
ووفقا لـ"لجنة حماية الصحفيين"، فقد قُتل 278 صحفيا خلال العقد الماضي بين عامي 2010 و2020، وفي حين أن إجراءات المحكمة ليس لها وزن قانوني رسمي، إلا أنها توفر فرصة لتسليط الضوء على الجرائم بحق الصحفيين ما قد يؤدي إلى زيادة الضغط على المجتمع الدولي للسعي إلى إجراءات قانونية رسمية من خلال محكمة العدل الدولية.
وبالرغم أن لوائح الاتهام لن يتم تقديمها إلا ضد 3 دول -المكسيك وسوريا وسريلانكا- فإن المحكمة تمثل تحذيرا أوسع للبلدان التي ترتكب انتهاكات بحق الصحفيين خاصة الدول القمعية في الشرق الأوسط.
وإذا نجحت "المحكمة الشعبية" في خلق ضجة، فإن السعودية ومصر وإسرائيل على وجه الخصوص، يمكن أن تواجه ضغوطا على المدى الطويل، خاصة إذا مثلت المحكمة بداية حركة واسعة جديدة للدفاع عن الصحفيين في الدول الاستبدادية.
بداية لمحاسبة أوسع
في عام 2018، جرى اغتيال الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" في قنصلية المملكة بإسطنبول، وأشارت تقارير الاستخبارات الأمريكية إلى تورط ولي العهد الأمير "محمد بن سلمان". وفي الأشهر التي سبقت القتل، شكل "بن سلمان" فرقة موت تسمى "فرقة النمر" تضم 50 وكيلا سعوديا من ذوي المهارات العالية.
وبالرغم أن حفنة من الوكلاء قد أدينوا وحكم عليهم بعد محاكمة صورية، إلا أن السعودية حمت "بن سلمان" من المساءلة، كما حرص ولي العهد على حماية الوكلاء رفيعي المستوى ومستشاريه الأقرب. ووفقا لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، فإن السعودية تحتل مرتبة متقدمة دائما في قائمة أسوأ الدول المنتهكة لحرية الإعلام في العالم.
وتجدر الإشارة إلى أن خطيبة "خاشقجي" التركية "خديجة جنكيز" التي دعت مرارا وتكرارا لعقاب "بن سلمان"، هي واحدة من الحاضرين في المحكمة الشعبية.
ومن المرجح أن يتردد صدى المحكمة وتداعياتها أيضا لدى أحد أقرب حلفاء "بن سلمان"، وهو الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي"، الذي نفذ في 3 يوليو/تموز 2013 انقلابا عسكريا ضد "محمد مرسي" أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر، بعد سنة واحدة فقط من توليه منصبه.
ومنذ ذلك الحين، قاد "السيسي" حملة قمع واسعة ضد الصحفيين وأغلق وسائل الإعلام المعارضة واعتقل العديد من الصحفيين. وفي عام 2020، احتلت مصر المرتبة الثالثة ضمن أسوأ الدول التي تعتقل الصحفيين.
من المحتمل أيضا أن تتابع إسرائيل باهتمام التداعيات التي تخلقها المحكمة، بالنظر لاستهدافها المستمر للصحفيين؛ حيث قُتل ما لا يقل عن 15 مراسلا على أيدي القوات الإسرائيلية بين عامي 1992 و2018. وفي مايو/أيار 2021، دمرت إسرائيل أكثر من 20 مكتبا إعلاميا فلسطينيا في غزة واستهدفت مكتب "أسوشيتيد برس" في غزة.
تورط الولايات المتحدة
قد تواجه الولايات المتحدة أيضا تدقيقا متزايدا في أعقاب المحكمة بشأن معاملتها للصحفيين وكاشفي الفساد. فعلى الرغم مما تظهره من احترام لمبادئ حرية الصحافة، إلا أن الإعلام الأمريكي يؤثر عليه إلى حد كبير نظام دعاية يقدم أولويات الحكومة الأمريكية والشركات الكبيرة والنخب الأخرى.
كما احتضنت الولايات المتحدة باستمرار بعض أكثر الأنظمة استبدادية في العالم، بما في ذلك أولئك الذين تصرفوا بعدوانية تجاه الصحفيين. وعلى سبيل المثال، تجاهلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الجرائم التي ارتكبها "بن سلمان" و"السيسي" وإسرائيل، والذين تعتبرهم الولايات المتحدة حلفاء.
وفي حالة مصر، قامت الولايات المتحدة بحماية "السيسي" وتبنت خارطة الطريق الخاصة به، مشيرة إلى أن مصر تتقدم في الطريق الديمقراطي.
وبذلت إدارة "باراك أوباما" جهودا للتحايل على القيود القانونية الأمريكية المتعلقة بتوفير المساعدات للحكومات التي جاءت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية. وطوال فترة رئاسة "أوباما"، اختارت واشنطن تجنب وصف أحداث 2013 بالانقلاب العسكري؛ مما سمح باستمرار تدفق المساعدات الأمريكية للجيش المصري.
أما إدارة "دونالد ترامب" فقد تخطت إدارة "أوباما" وكانت واضحة جدا في إعلان إعجابها الصريح بـ"السيسي". وتواصلت حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر من عهد "أوباما" مرورا بـ"ترامب" وحتى "بايدن".
وحتى بعد قتل "خاشقجي"، حافظت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على علاقات بناءة مع الرياض. وبالرغم أن تقارير الاستخبارات خلصت إلى أن ولي العهد السعودي أعطى أمرا مباشرا بقتل "خاشقجي"، فقد اختارت الإدارة الأمريكية عدم إحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية، كما رفضت معاقبة "بن سلمان".
وبشكل عام، فإن الولايات المتحدة لديها سجل مخزي فيما يتعلق بحرية الإعلام. ففي عام 2003، وجه البيت الأبيض ووزارة الخارجية حملة دعائية ضد مؤسسة "الجزيرة". وفي منتصف الحملة، قصفت الولايات المتحدة مكاتب الجزيرة في العراق؛ مما أسفر عن مقتل مصور.
أما في الآونة الأخيرة، فقد وجهت الولايات المتحدة تهمة التجسس لكاشف الفساد "إدوارد سنودن" وسعت لتسليمه إليها. وفي خطوة أكثر غرابة بالنسبة لبلد ديمقراطي، سعت السلطات الأمريكية إلى تسليم "جوليان أسانج" مؤسس "ويكيليكس" إلى الولايات المتحدة (مع أنه ليس أمريكيا)، بتهمة التجسس.
كما تدعي تقارير حديثة أن وكالة المخابرات المركزية خططت لاغتيال" أسانج"، المسؤول عن تسريب الآلاف من الرسائل التي توثق انتهاكات الجيش الأمريكي وانتهاكات أخرى. وحاليا، يتم احتجاز مؤسس "ويكيليكس" في السجن في المملكة المتحدة منذ عام 2019 في الوقت الذي تُنظر فيه قضية تسليمه.
ماذا بعد؟
يبقى أن نرى ردود الفعل الدولية التي قد تثيرها "المحكمة الشعبية للتحقيق في مقتل الصحفيين" وما إذا كانت ستتمكن من ممارسة ضغوط ذات مغزى على المجتمع الدولي لكي يتخذ إجراءات رسمية.
وعادة لا تسفر مثل هذه المحاكمات عن نتائج كبيرة، ولطالما أفلتت الدول القوية ورؤساء الدول من العقاب على الجرائم الفظيعة ضد الصحفيين، ولكن ربما يكون هناك تحول في المزاج الاجتماعي والسياسي خاصة أن مصر والسعودية وإسرائيل تواجه ضغوطا كبيرة في السنوات الأخيرة.
وفي عام 2011، شهدت مصر سقوط الديكتاتور "حسني مبارك"، وبالرغم من أن الجيش تمكن بسرعة من استعادة السيطرة الكاملة على الدولة، إلا أن حكم "السيسي" واجه أزمات في صورته العالمية كما يعاني من الانقسامات الداخلية والضغوط غير العادية من جماعات حقوق الإنسان، ويجادل البعض بأن الإطاحة بديكتاتور مصر الأخير مسألة وقت.
كما أن صورة "بن سلمان" ما زالت في أزمة كبيرة مما يجعل من الصعب عليه تنفيذ أجندته لدرجة تطرح شكوكا حول بقائه في السلطة. كما تظهر بعض المؤشرات على أن القوة الإسرائيلية قد تتراجع في السنوات القادمة، وهناك تصدعات تواجه الفصل العنصري الإسرائيلي.
لذلك، يجب اعتبار هذه المحكمة جزءا من منظومة أكبر من الضغوط على الحكومات الاستبدادية، وخطوة أخرى على الطريق نحو فرض التغيير. وبالتالي، سيكون من المهم متابعة التداعيات المحتملة في الأشهر المقبلة، وكذلك ردود فعل الحكومات في واشنطن والرياض والقاهرة وتل أبيب.