جنان الخطيب وعمر نشابة -
دفن الشخص المتوفي احترام له ولعائلته وللقيم البشرية والأخلاقية والدينية. حتى اليوم لم تجر مراسم دفن الكاتب الصحافي السعودي جمال الخاشقجي الذي قتل عام 2018، لأن مكان وجود جثمانه ما زال مجهولاً. وبغض النظر عن كل الأمور السياسية المتعلقة بهذه القضية، لا عدل ولا إنسانية ولا إنصاف في قلب الصفحة من دون كشف كامل الحقيقة ودفن جثمانه. نشرت السلطات السعودية جزءاً من التحقيق الذي أجرته كما نشرت الأمم المتحدة تقريراً موسّعاً بشأن الجريمة. يبرز تناقض واضح بين التقريرين ويبقى الأساس تحديد مكان الجثمان المفقود
خلف جدران قنصليّة المملكة العربية السعودية في اسطنبول غابت الحقيقة. اختفى الكاتب الصحافي جمال الخاشقجي عن وجه الأرض. جريمةٌ صادمة ما زالت تثير الجدل وتحرّك خيال المحققين لكشف غموض الاختفاء، ليبقى السؤال الأهمّ: أين جثمان الخاشقجي؟
في الثاني من تشرين الأول عام 2018 دخل جمال الخاشقجي إلى القنصليّة ولم يخرج منها. تقول السلطات التركيّة إنه خُنق ثم قُطّعت جثته واُخفيت. اعترفت السلطات القضائية السعوديّة لاحقاً بالجريمة ووصفتها بالبشعة.
وفي تموز 2019، نشرت المفوضيّة الأمميّة لحقوق الإنسان تقريراً، من 101 صفحة، أعدتّه مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسّفية حمّلت فيه المملكة مسؤولية قتل الخاشقجي عمداً. توصّلت المقررة إلى أدلّة موثوقة تشير إلى تنظيف مسارح الجريمة بدقّة واحتراف. وأشارت إلى أن التحقيق السعودي لم يجر بحسن نيّة، وأنه بمثابة «عرقلة للعدالة». وخلُصت المقررة الأمميّة إلى أن السعوديّة فرضت قيوداً على التحقيق التركي بحجة حماية العمليات القنصليّة.
كل دقيقة تمر بين ارتكاب الجريمة وفحص مسرح الجريمة فرصة متضائلة لاكتشاف الأدلّة الحاسمة. فإن مبنيين بحجم القنصليّة ومقرّ إقامة الديبلوماسيين يستغرقان عدة أيام لفحصهما بدقّة. وقد منحت السلطات السعوديّة وقتاً غير كافٍ وإمكانية محدودة لوصول المحققين الأتراك إلى مسرح الجريمة لإجراء فحص وتفتيش مهني وفعّال. قُتل الخاشقجي في الثاني من تشرين الأول، ومع ذلك، لم يتمكن المحققون الأتراك، برفقة محققين سعوديين، من الوصول إلى القنصليّة إلا في 15 تشرين الأول ولمدة 6 ساعات فقط. أما مقر إقامة القنصل فعاينوه في 17 تشرين الأول لنحو 13 ساعة. اكتشف المحققون خلال عملية تفتيش منزل القنصل بئراً، طلبوا الإذن للسماح لهم الكشف عليه، لكن السلطات السعودية رفضت منح الإذن. التحقيق في تقطيع الجثمان
بحسب تقرير المفوضية الأمميّة لحقوق الإنسان، استغرقت عملية التقطيع والتوضيب ساعتين منذ وصول الخاشقجي إلى القنصليّة. واستخدم فيها الجناة منشاراً لتقطيع أوصال الجثّة.
خرج الوفد الذي يشتبه في تورطه في جريمة القتل من مبنى القنصليّة على متن سبع مركبات، توجهت أربع منها إلى بيت القنصل واثنتان إلى فندق قريب. أما المركبة الأخيرة فكانت شاحنة سوداء بلوحات دبلوماسية اتجهت إلى الطريق السريع باتجاه مطار أتاتورك، من دون أن تخضع لأي تفتيش. في اليوم التالي للجريمة، سجّلت كاميرات المراقبة حريقاً في بئر في الفناء الخلفي لمنزل القنصل. وقد شوهد بعض أعضاء طاقم القنصليّة السعوديّة وهم يحرقون أوراقاً في البئر ذاته. تنظيف محترف
ورد في التقرير ذاته أنه «لم يتم العثور على الكثير» على الرغم من أن تقطيع الجثّة قد حدث داخل القنصليّة. لم يعثر المحققون الأتراك على الحمض النووي أو الدم في مكتب القنصل العام.
في الغرفة المجاورة، وجد المحققون مناطق تفاعلت بشكل محدود مع ضوء الأشعة فوق البنفسجيّة واختبارات سائل اللومينول (يستعمل للكشف عن آثار الدماء).
يشير غياب ردود الفعل على الدم أو سوائل الجسم الأخرى إلى واحد من احتمالين، او الاثنين معاً:
■ أولا، قد يشير إلى أنه منذ البداية تم اتخاذ العديد من الاحتياطات في وقت الجريمة، للحؤول دون فقدان الدم والسوائل الأخرى في الغرفة.
■ الاحتمال الثاني هو أن مسرح الجريمة كان هدفاً لتنظيف شامل و«احترافي» بعد القتل مباشرة وبعد التوضيب ونقل الجثّة. الرماد يشهد
إحدى فرضيات اختفاء جثمان الخاشقجي أن حريقاً أُشعل داخل البئر في منزل القنصل لمحاولة التخلّص من الأدلّة الجنائيّة ومنع التعرّف على الجثّة واستعادتها.
لكن هل حرق الجثّة كافٍ لإخفائها؟
أثناء حرق الجثث، يؤدّي احتراق الجثّة إلى تأكسدها إلى مركبات كيميائيّة أساسيّة، مثل الغازات والمعادن التي تحتفظ بمظهر شظايا العظام. مع تقدّم التكنولوجيا، يمكن للخبراء النظر إلى ما وراء الرماد وشظايا العظام، فيمكنهم جمع معلومات من الجسد المحترق كالجسم غير المحترق، إلّا ان هذا الأمر أكثر صعوبة.
نظراً لأن حرق الجثّة يؤدّي إلى تشظٍّ شديد للعظام، يتعرف خبراء أنثروبولوجيا مدرّبون على الرفات البشرية المتناثرة بالكشف ورفع الأدلّة. ولتحليل المكونات المختلفة التي يمكن احتواؤها في العينة، يفترض أن يستخدم الخبراء تقنيات متطورة عدة، بما في ذلك، الفحص المجهري الإلكتروني (electronic microscope)، التحليل الطيفي واللوني (عملية فصل أجزاء مختلفة من المواد الكيميائية بغية تحليلها بشكل فردي)، والأشعة السينيّة (X-rays).
في معظم الحالات، لا يمكن إثبات الهوية الإيجابية بحرق الجثث. فإن عينات العظام التي تُسخَّن إلى درجات حرارة تتراوح بين 800 و1200 درجة مئوية، تحافظ على التركيب النسيجي للتحليل ولكن الحمض النووي البشري لن ينجو.
رغم ذلك، يمكن أن تبقى معلومات مفيدة على قيد الحياة، أهمها أن مصدر العظام بشري. أضف الى ذلك أن المواد الجراحية وترميم الأسنان يمكن أن تنجو من حرق الجثمان وتكون مفيدة في تحديد الهوية.
حرق الجثّة خطوة قد يكون الجاني متأكداً أنها لصالحه، فهي طريقة مجدية للتستر على الجريمة بالتخلص من الجثّة. فإن كان حرق الجثّة قد تم فعلاً داخل البئر الكائن في فناء منزل القنصل، ولم ينقل الجناة بقايا العظام إلى مكان آخر، ما زال العثور على بقايا رفات الخاشقجي ممكناً.
احتمال التذويب مستبعد
الفرضية الأخرى لإخفاء آثار الضحية هو تذويب البقايا البشرية بحمضيّ الهيدروفلوريك والهيدروكلوريك. إذابة الجثث في الأحماض طريقة معروفة للتخلص من الرفات البشرية مورست على مر السنين، حيث تمتلئ سجلات الجريمة بقصص مروّعة عن استخدام مواد كيميائيْة للتخلص من الجسد. ففي حين أن هذه الأحماض قادرة على إذابة اللحم، إلا أن هذه العملية تستغرق وقتاً طويلاً وينبعث منها أبخرة قوية للغاية تشكّل خطراً صحياً كبيراً، ما يثير الشك حول إمكانية حصول هذه العملية داخل القنصلية أو في منزل القنصل.
أضف إلى ذلك أنها لن تؤدّي إلى إذابة الجسم تماماً، إذ لن تنفع هذه الحيلة إذا كان الجاني يرغب في جعل الجثّة تختفي تماماً، بل تساعد على تشويه الجثّة وتجنب التعرّف عليها. بعد الذوبان تتكون كمية كبيرة من مادة لزجة بنيّة ذات رائحة قوية. تلك المادة شديدة التفاعل من الممكن تحديدها كبقايا بشرية، تحتوي على بقايا العظام وشظايا رقيقة تحتوي على الكالسيوم والفوسفور.