متابعات-
أحاط غموض كبير بمقتل المعارض السعودي، مانع اليامي، في محلّة صفير فجر السبت الماضي، والذي وصفه «حزب التجمع الوطني» السعودي المعارِض الذي ينتمي إليه المغدور، بأنه عملية «اغتيال»، مطالباً «بتحقيق عادل وشفاف يبيّن تفاصيل وملابسات الحادثة لمعرفة مَن يقف خلفها». في المقابل، تجاهلت الرياض، رسمياً وإعلامياً، الخبر، ما خلا تغريدتَين للسفير السعودي في بيروت، وليد البخاري، واحدة «ثمّن فيها جهود قوى الأمن اللبنانية لكشف الجريمة واعتقال الفاعلين»، والثانية أعاد خلالها نشر تغريدة لصحافي لبناني يقول إنه «يُعتقد أن للموضوع علاقة بتجارة المخدرات»، مجارياً الذباب الإلكتروني، في محاولة لوسم الضاحية بتجارة المخدرات
على الطريقة اللبنانية، نُشرت وقائع الجريمة: المدعو م.م مواليد 1980سعودي الجنسية، قُتل على يد شقيقَيه ع.م مواليد 1976، وح.م مواليد 1990، طعناً بسكين «لأسباب عائلية وشخصية» قرب ملعب الراية في محلّة صفير في الضاحية الجنوبية لبيروت. ضبطت القوى الأمنية المشتبه فيهما اللذين اعترفا باقتراف الجريمة، بعد أن لجآ إلى إحدى الشقق في المحلّة، وأحالتهما مع أداة الجريمة على القضاء المختصّ. بعد ذلك، نشر السفير السعودي في بيروت، وليد البخاري، تغريدة على «تويتر» ثمّن فيها جهود قوى الأمن الداخلي في كشفها.
كان يمكن لمثل هذا الخبر أن يمرّ مرور الكرام، وأن يندرج في سياق تحقيق أمني - قضائي صرْف، ثم يطويه النسيان في اليوم التالي، لولا مفارقة صغيرة هي أن المغدور والقاتلَيْن سعوديو الجنسية، ومكان الجريمة هو الضاحية الجنوبية لبيروت. لكن التوسُّع في الأمر يكشف أموراً أكثر إثارة. فالمغدور واسمه الكامل مانع بن حمد آل مهذل اليامي، هو معارض سعودي من المذهب الإسماعيلي يقيم في لبنان منذ عام 2015، حين فرّ من المملكة بعد إعلان معارضته حربَ اليمن التي جعلها محمد بن سلمان، وكان في حينه وليّاً لوليّ العهد ووزيراً للدفاع، نقطةَ انطلاق ليستولي على الحُكم من خلالها، في الانقلاب الشهير على ابن عمه وليّ العهد السابق، محمد بن نايف، ويصبح حاكماً فعليّاً للمملكة تحت ظلّ أبيه الملك سلمان، الذي أصبح، في السنوات القليلة التالية، عاجزاً عن أداء وظائفه.
وبمعزل عن ملابسات الجريمة، فإن السيرة الذاتية للرجل ترسم صورةً لمعارض من النوع الذي لا يتساهل معه النظام السعودي، فهو ينتمي إلى قبائل يام، وهي فرع من قبائل همدان التي تنضوي بدورها تحت لواء قبائل حاشد، ويقيم معظم أفرادها في محافظة نجران على الحدود السعودية - اليمنية التي كان متنازعاً عليها، إلى أن وقّع علي عبدالله صالح معاهدة الحدود مع الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في جدة عام 2000، والتي انتزعت من خلالها المملكة اعترافاً يمنياً بملكيّتها لتلك الأراضي. ورفع الأخير في حينه شعار «لا ضرر ولا ضرار»، موحياً بأن تلك الاتفاقية كانت الحلّ العادل للنزاع الحدودي، علماً أن الكثير من اليمنيين شعروا بالغبن.
السيرة الذاتية للرجل ترسم صورة لمعارض من النوع الذي لا يتساهل معه النظام السعودي
ولأن المعارضة في السعودية ليست مسألةً تحتمل التسويات، فلا بد للمعارض، إذا أشهر معارضته، من أن يذهب إلى النهاية. ومنذ البداية، أدرك المغدور هذا الواقع، فأسّس في لبنان «حركة الحق والعدالة» قبل سنوات، وطالب، في بيان أذاعه باسمها، بتطبيق إصلاحات في المملكة تتضمّن محاربة الفساد ومنْح حريات للمواطنين، كما ساهم في تأسيس«حزب التجمّع الوطني» في أيلول عام 2020، الذي يضمّ بعض أبرز المعارضين السعوديين من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وممَّن لهم علاقات واسعة في الغرب. وتشتبه السلطات السعودية في أن الحزب يتلقّى دعماً من المعارض البارز سعد الجبري، اليد اليمنى لابن نايف، وحتى من بعض أفراد الأسرة المالكة الفارّين إلى خارج البلاد، ولا سيما بعض أبناء الملك الراحل، عبدالله بن عبد العزيز. ومن أبرز شخصيات الحزب أمينه العام عبدالله العودة، نجل رجل الدين سلمان العودة المسجون لدى ابن سلمان، ويحيى عسيري، ومضاوي الرشيد، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وتعتبر من أهمّ نقاط قوّة الحزب، إلى جانب ضمّه لأبرز المعارضين، وتمتُّع أفراده بنوع من الحصانة في البلدان التي يقيمون فيها، أنه يضمّ سنة وشيعة، وهو إذ لم يَدْعُ صراحة إلى إلغاء الملَكيّة، فإنه، في المقابل، يطالب بانتخابات برلمانية حرّة وإصلاحات. إلّا أن اليامي طلب من الحزب عدم إعلان انتمائه إليه ريثما يتمكّن من الخروج إلى بلد ثالث آمن، لأنه لم يكن يشعر بالأمان في لبنان، وفق إعلان الحزب في بيان نعيه، مؤكداً أنه تم الاتصال بالأمم المتحدة وعدد من الدول لتأمين لجوء له، وحدث الاغتيال في أثناء تلك المحاولات، محملاً السلطات السعودية «المسؤولية عن تعريض أبناء هذا الوطن إلى الخطر واضطرارهم للمنافي والإقامة في بيئات غير آمنة بسبب معتقداتهم السياسية ومطالبهم الحقوقية»، ومطالباً «بتحقيق عادل وشفّاف يبيّن تفاصيل وملابسات الحادثة لمعرفة مَن يقف خلفها».
لكن في موازاة التحفُّظ العلني من قِبَل كل الأطراف في انتظار التحقيقات، اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي باتهامات متبادلة، روّج خلالها الذباب السعودي أن اليامي «قُتل بسبب خلاف عائلي مالي مع شقيقيه يتعلّق بتجارة المخدرات»، محاولاً، من خلال ذلك، وسم المنطقة التي قتل فيها المغدور بـ«الفلتان وتجارة الممنوعات»، بينما حمّل معارضون السلطات السعودية مسؤولية عملية الاغتيال، مستندين إلى سجلّها في قتل وتتبّع المعارضين حتى في البلدان الغربية، وقال بعضهم إن الشقيقَين القاتلَين كانا يتردّدان إلى سفارة المملكة في بيروت، وذهبوا إلى حدّ وصف اليامي بأنه «جمال خاشقجي ثانٍ». وأكد مغرّدون أنه جرى مسح كل التغريدات عن هاتف المغدور، وإلغاء كل المتابعات الشخصية التي يتابعها، وكذلك الإعجابات، ما خلا إعجاباً لتغريدة تقول: «لو اتبعت الغراب مسافة طويلة... فستحط على جيفة».
واعتبر المغرد الشهير «مجتهد» أن «تصفية المعارضين السعوديين منهج انتهجه ابن سلمان بشكل وقح وفج هذا النظام الإرهابي السعودي قام باغتيال المعارض مانع حمد مهذل اليامي»، داعياً الجميع إلى التحدّث عن جرائم ابن سلمان التي زادت عن حدّها. وبخلاف تغريدة البخاري، لم تعلّق السلطات السعودية في الرياض على الحادثة، كما لم تتناولها وسائل الإعلام في المملكة. لكن البخاري نفسه عاد و«خَرَبها» بإعادته نشر تغريدة لصحافي لبناني يُدعى نضال السبع، يقول فيها إنه «يُعتقد أن للموضوع علاقة بتجارة المخدرات».