د. سعيد بن على العضاضي- الاقتصادية السعودية-
تنشر الجهات المعنية في الصحف اليومية بين الوقت والآخر قضايا هروب الشباب من الجنسين، وآخرها تقرير جمعية حقوق الإنسان حول هروب اليافعين. فقد نشرت الجمعية تقريرها عن هروب الفتيان والفتيات مدعما بإحصائية عن أعداد الشباب والفتيات الذين هربوا خلال العام الماضي 1436هـ. وقد بين التقرير أن عدد الفتيات الهاربات ضعف عدد الفتيان، وبين التقرير كذلك أن نحو 15 من الإناث تم الصلح بينهن وبين أسرهن، بينما تم إيداع ست من الفتيات دار الضيافة.
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام لا تمثل ظاهرة وليست مفزعة، ولكن ينتابنا القلق عندما تسجل مثل هذه الأحداث في مجتمع ينظر إلى نفسه على أنه أنموذج ومجتمع محافظ ومراع للحقوق الإنسانية وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف؛ لذا نريد أن نظهر هذا الموضوع على السطح، ونناقش الأسباب التي تجعل الشباب والفتيات يهربون من حضنهم الدافئ ومكانهم الآمن (المنزل) إلى أماكن مجهولة وبيئات مشبوهة، وسوف يكون تركيزنا هنا على هروب الفتيات؛ لأنه أكثر مرارة وأكثر عددا كما بينت الإحصائيات.
وعندما نطرح موضوع هروب الفتيات نعني به الهروب الذي سببه عدم المواءمة بين الفتاة وأسرتها، ولا نقصد به هروبها مع جنس آخر بهدف الزواج، أو لممارسة الجنس خارج دائرة الزواج، أو الهروب للتغيير بسبب الملل أو نحوه، بل نعني الهروب بسبب المعاناة داخل الأسرة، وبسبب عدم منحها حقوقها في الحياة الكريمة، وعدم إحساسها بالوئام والحنان والحضن الحنون وشعورها بالاضطهاد وسوء المعاملة.
لو أردنا أن نسلط الضوء على أسباب هروب الفتيات، نجد في مقدمتها النظرة الدونية للمرأة. فيبدو أن النظرة الدونية للمرأة ما زالت مترسخة في مجتمعنا، وتمارس بالفعل داخل الأسر؛ حيث تُفرض على الفتاة قيود قد لا تُفرض على الشاب حتى لا تستطيع أن تتنفس أو تُنفِّس عما يجول في داخلها، فتراقب من قبل الجميع من الشيخ الضرير إلى الطفل الصغير، وقد يُولَّى من لم يبلغ الحلم على مجموعة من الفتيات كونه ذكرًا. فالابن الذكر ما زال يتسلط على شقيقاته بتفويض من الأب أو من الأم أو منهما معا وبدعم من الثقافة المجتمعية.
ويدخل ضمن النظرة الدونية للمرأة نظرة بعض الآباء والأمهات على أن وجود الفتاة في المنزل مؤقت، وسترحل مع رجل غريب (زوج) يوما ما. فالبعض يرى أن المرأة وإن كانت من صلبه وتربت في حجره، إلا أنها ستتركه يوما ما، فلماذا الاعتناء بها وهي مجرد كائن غريب يمكن أن ترحل في أي وقت. وعندما تشعر الفتاة بهذا- وهي حتما ستشعر به- ينعدم التواصل بينها وبين أفراد أسرتها، وتبدأ في البحث عمن يخفف عنها مأساتها، وقد تجد من يستغل هذه الثغرة ويدخل حياتها، وقد ترتكب حماقات هي في غنى عنها، والذي يُسهِّل كل ذلك وسائل الاتصال الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي.
كما ينبثق من النظرة الدونية للمرأة الازدواجية في التربية والرقابة. فبعض الأسر تبالغ في الشك، وتفرض الرقابة الصارمة على تحركات الفتاة، بينما يُطلق للشباب العنان، يصول دون رقيب أو حسيب. وتصرُّف كهذا يضغط على الفتاة، ويرسخ في ذهنها أنها كائن مهان، يُنتظر منها فقط ارتكاب المحظور، ما يجعلها مع مرور الوقت تصدق أنها كذلك، وأن طبيعتها وتكوينها من أجل ارتكاب الخطأ. نعم الفتاة تحتاج إلى رعاية أكثر وتربية أعمق، ولكن لا يقصد بذلك الصرامة في التعامل، والتشكيك في النوايا، والرقابة المبالغ فيها، بل نقصد القرب منها، ومعرفة ما بداخلها، ومشاركتها همومها اليومية، وسؤالها عن الصعوبات التي تواجهها؛ حتى لا تضطر إلى الشكوى لعناصر غير موثوق بها.
السبب الثاني لهروب الفتيات من وجهة نظري يتمثل في التفكك الأسري، وعدم وجود مرجعية مهابة في المنزل، بل قد لا يوجد اسم للعائلة يُخشى من تلطيخه. فالسلوكيات المشينة عادة ما تظهر من أسر لا يهتم أعضاؤها باسم العائلة، ما يؤدي إلى دخول الغرباء إلى البيئة المنزلية مثل رفيقات السوء، أو الذئاب البشرية المتربصة بالخارج عبر ثغرات وشروخ تسبب فيها التفكك الأسري. الفتاة التي تعيش في جو عائلي هادئ تفخر بانتمائها لأسرتها؛ لأن قيم العائلة قد ترسخت داخلها؛ لذا نراها تتردد كثيرا في ارتكاب أي محظور، ومنه الهروب، مهما عانت من مشكلات لئلا يتلوث اسم عائلتها، أو أن يأتي العمل المشين من طرفها. بينما الفتاة التي تعيش في بيئة عائلية مفككة لا يمثل اسم العائلة لها شيئا يُذكر، نجدها لا تتردد في تلويثه، فليس هذا رادعا لها.
السبب الآخر من وجهة نظري حول هروب الفتيات الحالة المالية للأسرة. فهناك علاقة بين الحالة المالية المتدنية للأسرة وبين هروب الفتاة. وقد أيدت هذا الاختصاصية الاجتماعية/ منى المخيمر عندما بينت أن هناك أربعة أسباب جوهرية لهروب الفتيات، ذكرت منها الحالة الاقتصادية. الفتاة لديها متطلبات، وترى الموضات والأزياء وترف العصر، ولكن وضع عائلتها الاقتصادي لا يسعفها في تلبية مثل هذه الحاجات؛ لذا قد تغامر وتهرب من شظف العيش، لترى الحياة التي في مخيلتها. ونحن هنا لا نحمِّل الأسرة تداعيات هذا، بل تتحمله الجهات المعنية، وفي مقدمتها وزارة الشؤون الاجتماعية ووسائل الإعلام وعلماء الدين ومن في حكمهم، الذين أخلوا بدورهم التثقيفي ليبينوا للناس أن الله خلق الناس مختلفين في أرزاقهم، وما عليهم سوى الرضا بواقعهم، وبما قسم الله لهم حتى يفرج الله عنهم ما هم فيه. هذه بعض الأسباب التي أراها من وجهة نظري، وأنا متأكد أن لديكم المزيد، ولكن لا يمكن قبولها حتى يتم قياس مصداقيتها بنتائج أبحاث ميدانية ودراسات علمية. لذا على وزارة الشؤون الاجتماعية مهمة دراسة مثل هذه القضايا قبل أن تتسع دائرتها، وعليها أن تستعين بالمتخصصين وتقترح الحلول لمعالجتها قبل تفاقمها.