عبير العلي- الوطن السعودية-
إذا كان الإشكال والتفاوت في التأويل بين ظاهر الكلمة وباطن المعنى يقع في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ومن علماء معتبرين، فكيف لا يكون في نصوص شعرية أو أدبية يغلب عليها حديث النفس وهواها؟
ما زالت قضية الشاعر الفلسطيني الشاب أشرف فياض تتصدر الرأي العام داخل السعودية وخارجها بسبب الحكم القضائي الذي صدر بحقه الأسبوع الماضي، والذي قضى بقتله بحجة الردة والإلحاد والتطاول على الذات الإلهية. وقد تناول الكثير من الكتاب والمهتمين هذا الموضوع من جوانب عديدة ومختلفة مع إجماع كبير حتى من بعض القانونيين والشرعيين أن هذا الحكم يحتاج إلى مراجعة.
ما يلفت النظر في هذه القضية جوانب كثيرة ومتباينة منها: أن الذي يُحاكم هنا –وحكم عليه بالقتل- شاعر، مادته الكلمات وزاده الخيال في بناء صوره الشعرية، وهنا لا نلمح لتبرير لهذه الحقيقة بقدر ما نذكر بأنهم من القلة الذين ذكرهم القرآن الكريم وأقر بوجودهم ووصفهم بوصف يؤمن به الشعراء أنفسهم قبل الآخرين أنهم: "يقولون ما لا يفعلون" –الشعراء:226. وهذا يقود للتساؤل عن المعني بتفسير النصوص الشعرية أو الإبداعية بشكل عام في مثل هذه القضايا، هل هم أهل الفقه أم أهل اللغة؟ علما أن قضية "التأويل" هي من أكثر المواضيع الشائكة والمثيرة للجدل في الدين الإسلامي منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، ولا نبالغ إن قلنا إنها البداية لأغلب الخلافات التي حدثت في عصور الإسلام الأولى وأدت لظهور الفرق الإسلامية المختلفة التي تدور الصراعات المذهبية والطائفية بينها منذ تلك الفترة وحتى الآن. الخلاف والاختلاف موجودان حتى في تأويل نصوص القرآن الكريم، -وعلى سبيل المثال لا الحصر- ونحن نقرأ هذه الآية من سورة الرعد: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" يتبادر لأذهاننا التفسير الحرفي الظاهر للآية ولكن نجد أن هذه الآية عند عدد من علماء القرآن وعلى رأسهم ابن عباس يقصد فيها بالماء الذي نزل من السماء القرآن، وبالأودية القلوب. وهذا تأويل لباطن المعنى من مختصين لا يختلف مع تفسير آخر يقول به عدد آخر من العلماء.
الاختلاف في التأويل شمل أيضا حديث الرسول عليه السلام ومنذ الأيام الأولى لوفاته في الخلاف الشهير بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما حينما لم يتفقا في حكم قتال من امتنع عن دفع الزكاة من القبائل التي توقفت عنها بعد وفاة الرسول باعتبارها كالضرائب التي انتهت بوفاة الرسول، فكان عمر يقول إنه لا يجوز قتالهم لأنهم يشهدون بألا إله إلا الله وهذا كاف لعصمة دمائهم حسب الحديث النبوي وهو أقوم للمصلحة العامة، بينما ارتأى أبو بكر أن يقاتلهم حتى يعودوا لدفع الزكاة باعتبار أن الشهادة لا تقوم إلا بها وبالصلاة، فانصاع عمر لأبي بكر لأنه خليفة المسلمين، ثم عاد في وقت خلافته لتحقيق ما اعتقده صوابا في شأن مانعي الزكاة فأعاد لهم سباياهم وأموالهم وأطلق سجناءهم. في هذه القصة -وقصة المؤلفة قلوبهم- نلاحظ الاختلاف الواضح في تأويل وتطبيق حديث الرسول من أعظم شخصيتين في الأمة الإسلامية بعده، واتفاقهما على المصلحة العامة حسب ما يرى كل قائد منهما. فإن كان الإشكال والتفاوت في التأويل بين ظاهر الكلمة وباطن المعنى يقع في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ومن علماء معتبرين، فكيف لا يكون في نصوص شعرية أو أدبية يغلب عليها حديث النفس وهواها وخيالات لا تؤخذ بظاهرها ولا برأي واحد في تأويلها قد يحورها ويأخذها لمعان تتفق مع ما يراه فقط وما تغلب عليه مصلحته ونواياه.
الجانب الآخر المهم والملفت في قضية الشاعر أشرف فيّاض أنه في حديثه الأخير لإحدى الصحف -وفي شهادة من يعرفه- ضحية لمكيدة شخصية وتصفية حسابات مع عدد من الأطراف، وأن الحكم انتقل بشكل مباشر من الجلد والحبس لأربعة أعوام إلى القتل حدا، وهذا من شأنه أن يؤدي لإعادة النظر مجددا في حيثيات القضية وتحري الإنصاف في الاستماع لكافة الأطراف والشهود. ولو قلنا (افتراضا) إنه يوجد ما يخل بالعقيدة بالفعل في نصوص الشاعر أو أنه ظهر عليه في سلوكه أو حديثه أو كتاباته أي بوادر للكفر أو الإلحاد، أليس من حقه أن يستتاب؟ وأن تُقبل توبته ويحرص على هدايته وإرشاده للحق والخير؟ ألا توجد هناك لجان في وزارة الداخلية لمناصحة من يهدف للإخلال بعقائد الشباب ويمس أمن البلاد والعباد تستوعبهم وتجالسهم وتدعمهم نفسيا وماديا حينما تعيد تأهيلهم للعودة للانخراط في الحياة العامة؟ لماذا لا تكون هناك لجان مشابهة لدى وزارة العدل ووزارة الشؤون الإسلامية هدفها مناصحة من يعتقدون أنهم في طريقهم للكفر والإلحاد والبحث معهم عن الأسباب ونقاشهم فيها وتغليب مصلحة إصلاحهم وسلامة أرواحهم بدلا من قتلهم؟!
سماحة الإسلام تعرف بأنها تقدم حفظ الأنفس وحرمة الدماء على هدرها وقتلها، ومحاكمة الإنسان على ما يضمر بينه وبين ربه أبعد ما يكون عن مقاصده المعروفة والأدلة الواضحة التي توجد في القرآن الكريم.
في قضية أشرف فيّاض نطالب أن يحاكم المتهم بعدل وإنصاف تحرص عليهما بلا ريب حكومتنا وقضاؤنا، وأن يعامل بشريعة الإسلام التي يقوم عليها نظام الحكم في المملكة وليس باختلاف الأهواء والنوايا لدى بشر قابلين للصواب والخطأ.