كيلي مور جيلبرت، موقع معهد الشّرق الأوسط- ترجمة مرآة البحرين-
في حين خدم التّضامن مع الحركات الاحتجاجية الأخرى في العالم العربي بالتأكيد كمصدر إلهام للانتفاضة البحرينية في العام 2011، إلا أن للاضطراب المتواصل الحاصل في هذه الجزيرة الصغيرة الغنية بالموارد جذورٌ أكثر عمقًا. في الواقع، الانتفاضة البحرينية هي واحدة من عدد من الأزمات السّياسية المترابطة التي سيطرت على المملكة على الأقل مرة في كل عقد منذ الحقبة الاستعمارية. وعلى خلاف أغلبية الدّول الخليجية الأخرى، لطالما تميز المشهد السّياسي في البحرين بمعارضة قوية لسياسة الحكومة، مع تقليد راسخ باستخدام الاحتجاج العام كوسيلة للتّعبير عن المعارضة، بغض النّظر عن حظر الحكومة للتّجمع الشّعبي. يمكن تفسير بعض من هذا من خلال الدّيموغرافية الفريدة من نوعها فيالبحرين، في حين أن النّسبة الدّقيقة للسّنة مقابل الشّيعة غير واضحة. تُعتَبَر البحرين على نطاق واسع الدّولة الخليجية الوحيدة ذات الأغلبية الشّيعية، وهي أيضًا الآن الدولة العربية الوحيدة ذات الأغلبية الشّيعية التي تحكمها أقلية سنية.
الدّعوات إلى الإصلاح ومحاولات المشاركة في العملية السّياسية في البحرين، التي تعود إلى الثّلاثينيات، لطالما كانت عابرة للطّوائف، وتضمنت ممثلين عن كل من الجماعتين السّنية والشّيعية في البلاد. وقد يشكل تطور أي حركة معارضة فاعلة عابرة للطّوائف، مع أسبقية في التّحالفات الوليدة التي برزت في الثّلاثينيات والخمسينيات والسّبعينيات، ضغطًا جديًا على قدرة أسرة آل خليفة على الحفاظ على قبضتها المُطلَقة على السّلطة. وعلى هذا النّحو، لطالما اتبعت الحكومة البحرينية استراتيجية "فرّق تسد" كوسيلة لمنع الجماعات ذات المصالح المختلفة في البلاد من توحيد مطالبها. هذا المقال سيحاول تأطير التّوترات الطّائفية الحالية في البحرين من خلال إظهارها على أنها نتاج تاريخ طويل من سياسة "فرق تسد" في البلاد، وسوف يشير إلى أن انتفاضة العام 2011 تشكل تطورًا خطيرًا في هذه الاستراتيجية، ويمكن لها في نهاية المطاف أن تُرَسخ عدم الاستقرار السّياسي على مدى السّنوات المُقبِلة.
التّوترات الطّائفية ظهرت في الأزمات السّياسية الدّورية في البلاد، على الرّغم من أنّه، على عكس الرواية الشّعبية في البحرين، لم تكن الطّائفية العامل الدّافع والمُسَيطر وراء انتفاضة العام 2011 أو حركات الاحتجاج التي سبقتها. نظام آل خليفة الملكي القَبَلي، الأكثر حساسية من أي وقت مضى تجاه التّهديدات المُتَصَورة لحكمه، والمُدرِك تمامًا لديموغرافية البحرين، اتبع استراتيجية "فرق تسد" بهدف الحفاظ على قبضته على السّلطة منذ استقلال البلاد عن بريطانيا في العام 1971. العداوات الطّائفية الهائجة أثبتت على طول المدى كونها طريقة مفيدة لتقسيم جماعات المعارضة البحرينية، ومنع القومية من توحيد مصالحها العابرة للطّوائف ضد سياسات الحكومة غير الشّعبية. قبل انتفاضة العام 2011، حين لم يكن إسقاط آل خليفة بعيد الاحتمال تمامًا، كانت السّياسات الطّائفية للحكومة أكثر حَذَرًا، وكانت المساواة في الفرص لكل المواطنين البحرينيين مُؤَكّدة بشدة، على الرّغم من وفرة الأمثلة العملية التي تؤكد العكس.
على الرّغم من ذلك، يبدو أن احتجاجات الرّبيع العربي في العام 2011 هزت النّظام الملكي من أساسه، مؤدية إلى تصعيد في الخطاب الطّائفي والقيام إلى حد بعيد بالتّظاهر بأن الحكومة تخدم جميع مواطنيها على قدم المساواة. على الرّغم من رد آل خليفة الصّارم والوجود المستمر لقوات مجلس التّعاون الخليجي التي تقودها السّعودية في البحرين، دخلت الاضطرابات عامها الخامس. وتضافرت حملات القمع ضد جماعات المعارضة بتكثيف السّياسات الطّائفية لتحويل الانتفاضة إلى حراك شيعي حصريًا مع نظرة متطرفة بشكل متزايد على المستوى العالمي. يبدو أن التّقليد البحريني في ممارسة النّشاط غير العنيف والتّعاون العابر للطّوائف في خطر، كصراع طائفي تم تصنيعه إلى حد كبير من خلال تهديدات سياسة الحكومة بتحويله إلى نبوءة تحقق ذاتها.
تنفيذ سياسة "فرق تسد": الحقبة الاستعمارية
واصل آل خليفة إلى استراتيجية تعزيز السياسات الطّافية التّقسيمية، بما في ذلك التّمييز داخل أنظمة القوى العاملة والتربية والأمن الاجتماعي، وتوزيع الدّوائر الانتخابية ومحاولات استخدام المواطنة لأهداف الهندسة الدّيموغرافية؛ لأنهم أدركوا أن التّعاون المدني العابر للطّوائف أو السّياسي هو أكبر تهديد داخلي لبقاء النّظام. في الفترة الاستعمارية، لجأت السّلطات البحرينية عادة إلى القوة لإخضاع جماعات المعارضة، وخاصة أولئك الذين نجحوا في بناء تحالفات تجاوزت جماعات المصالح التي قد تسعى الحكومة عادة إلى جعلها تتنافس، بما في ذلك الإسلاميون والقوميون العلمانيون. برز النشّاط المُنظم ضد حكام آل خليفة المدعومين من قبل البريطانيين في الثّلاثينيات، وكان أغلبه يُقد من قبل وجهاء السّنة والشّيعة الذين طالبوا بإصلاح النّظامين التّربوي والقضائي وبالحق في إنشاء نقابات عمالية. الحساسيات الطّائفية كانت واضحة في عريضة قُدِّمت إلى المسؤولين البريطانيين من قبل الزعماء البارزين في المجتمع في العام 1938، والتي تضمنت مطالب بمجلس تعليمي عابر للطوائف، وآلية عابرة للطّوائف للتّواصل مع الحكومة، واقتراحًا بخليط من القضاة السّنة والشّيعة للحكم في كل واحدة من محاكم البحرين. في هذه الحالة، اتبع البريطانيون تكتيكًا ناجحًا من فرق تسد انطلاقًا من أسس كائفية، وأقنعت ممثلي الشّيعة بالانفصال عن الكتلة العابرة للطّوائف، من خلال الموافقة على بعض مطالبهم، كتعيين قضاة شيعة، واعتقال عدة إصلاحيين سنة. وقد تعرضت المبادرات الأخرى في الفترة الاستعمارية، بما في ذلك الإضراب العام في العام 1943 من قبل البحرينيين السّنة والشّيعة العاملين في قطاع النّفط وتأسيس "صندوق التعويضات التعاوني" عابر للطّوائف ومختص بالأعمال، لتكتيكات "فرق تسد" الاستعمارية.
استفاد آل خليفة من نجاح الجهود البريطانية في سياسة "فرق تسد"، وانتهجوا نهجًا مماثلًا عقب ظهور هيئة الاتحاد الوطني في العام 1954، وهي المنظمة الرسمية المعارضة الأولى العابرة للطّوائف في البحرين. طالبت هيئة الاتحاد الوطني بانتخابات نيابية وبالحق في إنشاء نقابات عمالية، ووفقًا لخلف "اعتبرت الوحدة الوطنية لكل البحرينيين الشّرط الأول لتحريرهم". آلاف المواطنين من كلتا الطّائفتين شاركوا في تجمعات في السّنابس وفي العاصمة المنامة ووقعوا على عرائض تعهدوا فيها بدعمهم لمطالب هيئة الاتحاد الوطني. حاول آل خليفة أساسًا تقسيم هيئة الاتحاد الوطني من خلال إنشاء منظمة موازية تُدعى "هيئة المؤتمر الوطني"، مؤلفة من تجار شيعة ووجهاء وعلماء دين، كبديل طائفي. لاقت هذه المبادرة نجاحًا محدودًا في تلك الفترة، لكن يمكن النّظر إلى "هيئة المؤتمر الوطني" على أنّها السّلف لجمعية الوفاق الوطني الإسلامي، وهي حاليًا الجمعية السّياسية الشّيعية الأكبر في البلاد. في البحرين، وعقب إضراب عام في ديسمبر/كانون الأول في العام 1954، قررت الحكومة الدّخول في محادثات مع هيئة الاتحاد الوطني، لتذهب في نهاية المطاف إلى الاعتراف بها وإلى التّرخيص بإنشاء نقابة عمالية عابرة للطّوائف. مع ذلك، حظر البريطانيون الجماعة بعد عامين من ذلك ونفوا قادتها، بعد أن نظّمت هيئة الاتحاد الوطني تظاهرات ضد التّدخل البريطاني في أزمة السّويس في العام 1956. وعلى الرّغم من تأثيرها ذي المدى القصير، فإن هيئة الاتحاد الوطني مهمة من حيث كونها تبرهن أن حراكًا سياسيًا عابرًا للطّوائف، مبنيًا على مبادئ القومية البحرينية بدلًا من الانتماء الطّائفي، كان قادرًا على التّفاوض بشكل عملي والحصول على تنازلات من أسرة آل خليفة المالكة.
المخاطر التي تشكلها مثل هذه السّابقة، لا سيما في الوقت الذي بدأت فيه الأمبراطورية البريطانية بفقد السّيطرة على بعض ممتلكاتها الاستعمارية في أفريقيا وشبه القارة الهندية، كانت مفهومة تمامًا من قبل النّخب الحاكمة في البحرين. وفي ضوء ذلك، سيسعى آل خليفة في العقود اللّاحقة لتحديد ومنع بروز المزيد من الكتل السّياسية العابرة للطّوائف، مدركة قدرة هذه الأخيرة على تحدي قبضتها المُطلَقة على السّلطة.
الجزرة والعصا في مرحلة ما بعد الاستقلال في البحرين
نظرًا لفعالية النّهج البريطاني، ليس مفاجئًا أن الحكومة البحرينية في فترة ما بعد الاستقلال سعت إلى تبني استراتيجية "فرق تسد" في محاولاتها لمنع بروز حركات معارضة عابرة للطّوائف. هذه الاستراتيجية تبعها عادة نمط استُخدِمت فيه القوة والقمع لإخضاع فصائل المعارضة، وتبعها شكل من أشكال الامتياز المُصَمم بهدف خلق المزيد من الانقسام بين الجماعات الطّائفية أو ذات المصالح المختلفة داخل كتلة معارضة -أي بشكل أساسي النّهج الكلاسيكي للجزرة والعصا. في بعض الأحيان، كانت الجزرة تُستَخدَم قبل العصا، كما في مفاوضات آل خليفة الأولية مع هيئة الاتحاد الوطني، مع ذلك، أتت التّنازلات والحوار الرّمزي لتظهر بعد إخضاع أو استقطاب تهديد مُحتَمَل لسلطة النّظام الملكي.
يمكن رؤية هذا التّكتيك في نهج الحكومة البحرينية مع اللجنة التأسيسية للاتحاد العام للعمال، التي أُنشِئت في العام 1972، في محاولة للاستفادة من حسن النّية السّائدة في فترة ما بعد الاستقلال للدّفع لإنشاء نقابة عمالية وطنية. نظمت اللجنة التّأسيسية للاتحاد العام للعمال عددًا من الاحتجاجات والإضرابات العامة الكبيرة، ووفقًا للشّهابي، كانت "أول تحالف علماني شعبي في البحرين، حيث لم تلعب القضايا الطائفية والدّينية أي دور ملحوظ في إنشائها أو أهدافها". حملة قمع شرسة، شنّتها قوات الأمن، بما في ذلك اعتقال قادة اللجنة التّأسيسية للاتحاد العام للعمال وقادة الاحتجاج، مَكّنَت آل خليفة من إخضاع اللّجنة ومن وضع التّظاهرات تحت السّيطرة. على الرّغم من ذلك، سعَت الحكومة بعد ذلك لاسترضاء الأصوات القومية داخل الحركة من خلال سنّ إجراء لحماية حرية التّجمعات، في الدّستور الجديد للعام 1973، وهو أحد المطالب الأساسية للّجنة التّأسيسية للاتحاد العام للعمال.
انتخابات العام 1973 حملت مجموعة من جماعات المصالح إلى المجلس الوطني المُنشَأ حديثًا، وهي نتيجة لما كان قد تم تفسيره في البداية على أنّه دعم لقدرة آل خليفة على الحفاظ على سيطرتها على السّلطة التّشريعية. وبالإضافة إلى المستقلين الموالين للحكومة، والوزراء الأربعة عشر المُعَيّنين بشكل مباشر، ثمانية قوميين علمانيين ويساريين انتُخِبوا مع تسعة إسلاميين شيعة محافظين. ولعدم قدرتها على تمرير تشريع من جانب واحد، كان من المتوقع أن مجلسًا وطنيًا، مُقَسمًا بين جماعات ذات مصالح متعارضة أيديولوجيًا و مشاكسة، لن يُشَكّل أكثر من منفذ رمزي للنّقاش .مع ذلك، وعلى الرّغم من الاختلافات الأيديولوجية، التي بدت أساسًا عميقة وغير قابلة للحل، فإن الكتل العلمانية القومية والدّينية الشّيعية تعاونت بشأن عدد من القضايا، ما أحبط محاولات الحكومة للحصول على ختم مطاطي للتّشريع بما في ذلك مرسوم أمن الدّولة عام 1974، الذي لم يحظَ بالشّعبية على نطاق واسع.
سعى آل خليفة أساسًا لتقسيم الكتلة من خلال مناشدة القيم الدينية للنّواب الشّيعة، من دون جدوى، محاججين بأن قانون الأمن سيُجَرّم "نشر مبادئ مهرطقة"، ومتهمين الكتلة العلمانية القومية بالكفر. وكما في حالة هيئة الاتحاد الوطني، خشيت الحكومة من أن المعارضة حصلت على الكثير من السّلطة وشكّلت تهديدًا مباشرًا للحكم الملكي المُطلق. في العام 1975، رد الأمير بأن حلّ المجلس الوطني، متخليًا عن تجربة البحرين في الدّيمقراطية البرلمانية لصالح الحكم بمرسوم ملكي.
انتفاضة البحرين: مقدمة للربيع العربي؟
المثال الأفضل على نهج الجزرة والعصا و"فرّق تسد" المُعتَمد من قبل آل خليفة يمكن رؤيته في رد البحرين على أكبر انتفاضة شعبية واسعة النّطاق، المُشار إليها غالبًا بـ "الانتفاضة البحرينية". بدأت الانتفاضة في العام 1994 بعريضة مطالبة بإعادة تشكيل البرلمان قبل الانزلاق إلى سنوات من الاضطرابات تميّزت بالتّظاهرات الحاشدة والإضرابات العامة، والشّغب والعنف. حظيت عريضة العام 1994 بدعم مختلف عابر للطّوائف من المجتمع البحريني، بمن في ذلك الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين من كلتا الطّائفتين؛ مع ذلك، أغلب المحتجين الذين كانوا القوة الدّافعة وراء الأزمة كانوا من الشّباب الشّيعة، وعدد منهم سيطر على المعارضة البحرينية في العقود اللّاحقة. التّكتيكات المُستَخدمة من قبل الحكومة، التي شملت استخدام الذّخيرة الحيّة ضد المتظاهرين ومحاصرة القرى الشّيعية واعتقال واحتجاز مئات النّاشطين على الرّغم من ذلك، بعد وفاة الأمير في مارس/آذار 1999، استبدل ابنه حمد العصا بالجزرة، محاولًا الالتزام مع المعارضة المعتدلة من خلال وعود بالإصلاح الدّستوري وبرلمان منتخب. هذه الخطوات الأولى باتجاه التحرر السّياسي في البحرين، التي برزت في ميثاق العمل الوطني في العام 2001، وحظيت بتأييد قوي في استفتاء شعبي، وأُقِرّت بجلب الانتفاضة إلى نهايتها. مع ذلك، فشل حمد في نهاية المطاف بتنفيذ إصلاحاته الموعودة بشكل مجدٍ. تمّت صياغة الدّستور الجديد للبحرين من طرف واحد، ومن دون تشاور، و"ورقة التّين" أي مجلس النّواب كان تابعًا لمجلس الشّورى غير المنتخب ، كاشفًا عن أن ميثاق العمل الوطني كان ببساطة مجرد مظهر أجوف آخر لاستراتيجية الجزرة والعصا بهدف إخضاع المعارضة.
تبنّت الحكومة البحرينية في بادئ الأمر نهجًا مماثلًا في ردّها على انتفاضة الرّبيع العربي في المملكة في العام 2011. احتاج آل خليفة إلى جزرة كبيرة لتتناسب مع العنف غير المسبوق لقمعهم العسكري، والذي أخلَت فيه قوات الأمن معسكرات الاحتجاج بالدّبابات والذّخيرة الحية، وأبقت البحرين قيد الاحتجاز لأشهر بمساعدة قوات دول مجلس التّعاون الخليجي. وكان التّنازل الكبير من قبل الملك حمد هو إنشاء لجنة مستقلة لتقصي الحقائق، وهي لجنة ترأسها خبراء قانونيون دوليون مستقلون، وتمتلك سلطة إصدار توصيات عامة للحكومة البحرينية. وقد رحّبت بعض جماعات المعارضة بحذر بتقرير اللّجنة، في حين تجاهله آخرون. فشل الحكومة في تنفيذ توصيات هذه اللّجنة بشكل مُجدٍ ساهم في تعميق عدم الثّقة، ومثّل ما يمكن القول بأنّه تنازل عن "الجزرة" في مقاربتهم لنهج "الجزرة والعصا" في استراتيجية "فرق تسد"، مع التأكيد على العنف الآن على حساب التّنازلات. في الواقع، فإن ترسيخ الاضطرابات في الفترة التالية للعام 2011، بما في ذلك ازدياد السّمات الطّائفية، يبدو إشارة باعثة على القلق بأن البحرين تنتقل إلى مكان تصبح فيه التّكتيكات القديمة، من كلا الجانبين، سواء الجزرة والعصا أو الالتزام العابر للطّوائف، مُكرّرة من دون فائدة.
نبوءة تحقق ذاتها؟
بعد عقود من التلاعب بالانتماءات الطائفية لتحقيق مكاسب سياسية، يبدو أن آل خليفة قد يكونوا نجحوا في زيادة الانقسامات إلى الحد الذي لا يتضح فيها ما إذا كان المجتمع البحريني قادرًا على استعادة الرّوحية السّابقة للتّعاون الطّائفي. من خلال السّعي إلى "فرق تسد"، من الممكن أن تكون الحكومة البحرينية قد قسمت المجتمع على نحو شديد العمق، وكنتيجة لذلك نصّبت نفسها للحكم في نظام ممزق وغير مستقر، يعاني باستمرار من العنف والاضطراب. يبدو أن الحكومة البحرينية قد نجحت جدًا في خلق الانقسامات، وتخاطر بالإضرار بما يؤدي في نهاية المطاف إلى حماية قبضتها على السّلطة.
العقود من سياسة الحكومة الطّائفية، بما في ذلك تكتيكات "فرق تسد" والتّمييز ضد البحرينيين الشّيعة في القوى العاملة وتوفير الخدمات الحكومية، عزّزت الانتماءات الطّائفية على حساب رواية أكثر شمولية عن القومية البحرينية. وقد مكّن ذلك الحكومة من القضاء بسرعة شديدة على التّيار العابر للطّوائف في انتفاضة العام 2011، من خلال اعتقال المشاركين السّنة في الاحتجاجات الأولى في الرّبيع العربي مثل محمد البوفلاسة وابراهيم شريف، اللذين ألقيا خطابات في دوار اللّؤلؤة، وتعزيز الرّواية بأن الاحتجاجات كانت انتفاضة شيعية خططت لها إيران. وحشية القمع ضد المحتجين وإطلاق العنان لوسائل الإعلام الحكومية الزّاعمة بشدة أن الاحتجاج كان مؤامرة خارجية ينفذها عملاء شيعة شهدا بسرعة الاختفاء العارض للسّنة من الدّوار، ومعها الصّرخة الأولى "لا سنةن لا شيعة، فقط بحريني".
الضّراوة التي واصل بها آل خليفة حكم "فرق تسد" خلال الانتفاضة والاضطراب المتواصل الذي استمر منذ ذلك الحين، أديا إلى تطوير مناخ من انعدام الثّقة العميق والخوف بين الطّائفتين السّنية والشّيعية في البحرين، وهو أمر يمكن القول إنّه غير مسبوق. وفي حين يواصل النّاشطون الذين حاورهم المؤلف التّأكيد بأن حراكهم غير طائفي بل هو مبني على قيم عالمية بما في ذلك الدّيمقراطية وحقوق الإنسان،يبدو أن التّطورات السّياسية الأوسع نطاقًا توحي بأن الأمة أصبحت منقسمة بعمق وفقًا لخطوط طائفية. إحدى النّتائج غير المقصودة للخطاب الطّائفي المدعوم من قبل الحكومة الذي ساد منذ العام 2011، تمثلت في ظهور حركات ناشطة سنية، يما في ذلك جماعات أمنية أهلية تسعى إلى حماية نفسها ضد المحتجين الشّيعة، وعناصر متطرفة تتهم الحكومة بأنّها لا تقوم بما ينبغي لقمع "العملاء" الشّيعة. ويلحظ غينغلر أنه "على خلفية تحذيرهم بشكل مستمر من الخطر الشّيعي، فإن عددًا من السّنة يرون تناقضًا بين الإنذارات وبين عدم رغبة الحكومة في الوقت ذاته في القضاء على التّهديد مرة واحدة وللأبد". الصّحوة السّياسية للسّنة البحرينيين، الذين كانوا في السسّابق راضين بالبقاء بعيدين عن السّياسي مقابل منافع وضعهم التّفضيلي، تمتلك القدرة على مواصلة ترسيخ السّياسات الطّائفية الخطيرة على نحو متزايد في البحرين. وفي حال قرر آل خليفة في مرحلة ما العودة إلى نهج الجزرة والعصا، من خلال تقديم تنازلات ذات مغزى للمعارضة الشّيعية، فإن قدرتهم على نشر الصّراع سوف تُقَيّد من خلال احتمال حدوث رد فعل عنيف من قبل السّنة. وفي مثل هذا الحدذ، من غير المُرَجح أن يخاطر آل خليفة بتنفير قاعدة الدّعم الأساسية لديهم. يبدو أن الحكومة البحرينية واقعة في شراك موقف الخدعة 22* من تصميمها الخاص.
في محاولة لإحكام قبضتها على السّلطة، رسّخت التوترات الاجتماعية المُزَعزِعة التي تهدد الآن قدرتها على الحفاظ على السّيطرة على البلاد. عقود من سياسة "فرق تسد" في البحرين تُحَوّل هاجس الصّراع الطّائفي إلى نبوء خطيرة تحقق ذاتها.