الرياض السعودية-
تمَّ توجيه الدعوة لي في أحد الأيام لحضور فعالية تثقيفية في مدرسة ثانوية للبنات، فقررت الذهاب إلى المدرسة للتغطية، وربَّما كان لديّ فضول كبير حول تلك المدرسة، التي كنت أسمع أنَّها تُعدّ من المدارس الجيدة على مستوى الإدارة التعليمية، إلاَّ أنَّ ما لفت انتباهي هو كثرة عدد الطالبات "المسترجلات" أو ما يُعرفن ب "البويات"، ولاحظت حينها أنَّ هناك أعدادا غير قليلة من الطالبات في تلك المدرسة ممَّن يقصنَّ شعرهنَّ حتى مستوى الأذن، إلى جانب من يرتدين حذاء رياضيا رجاليا، ويمشين كمشية الشباب، وقد لاحظت في مقابل ذلك وجود عدد من الطالبات يضعن مساحيق التجميل، إلى جانب من جعَّدن شعرهنَّ الطويل، فكان المنظر بعيدا جداً عن منظر طالبات العلم، وحينذاك نظرت إلى إحدى المرشدات الطلابيات، التي كانت تجلس بالقرب مني، وقلت لها: "يبدو أنَّ هناك تحولا كبيرا في البيئات التعليمية، فالطالبات أصبحن يرتدين ما يرغبن، ويفعلن ما تمليه عليهن ميولهن، وذلك لم يكن متاحاً في وقت مضى، حيث كان هناك ضبط وربط، في ظل وجود قوانين مدرسية صارمة، وعقاب حاضر دائماً"، نظرت إليَّ تلك المرشدة وابتسمت، ثمَّ علقت قائلةً: "لقد أصبحت المدارس لا تمانع في مبالغة الطالبة في إظهار زينتها".
لا أستطيع أن أُنكر دهشتي ممَّا سمعت، فهل يمكن أن نعتمد على تقليص عدد البويات بين الفتيات بالانفلات؟ وعلى الرغم من جدية هذا السؤال، إلاَّ أنَّه يبدو أنَّ هناك تغيرا كبيرا أصبحت تعيشه الفتاة في مراحلها العمرية المبكرة، كما أنَّ هناك عددا من الأسئلة الأخرى تفرض نفسها في هذا الشأن أيضاً حول ما تشعر به الطالبة "البوية"، ولماذا تفعل هذا الفعل؟ وإلى أين تريد أن تصل؟ ومن علمها هذا السلوك السلبي؟
إنَّ موضوع الفتاة "المسترجلة" أو "البوية" لم يعد جديداً، إلاَّ أنَّ المخيف في الموضوع أنَّ الظاهرة في تزايد، فبعض الفتيات أصبحن يملن إلى ذكورية الهُوية، وعلى الرغم من خطورة هذا السلوك، إلاَّ أنَّ بعض الأسر مازالت غير مدركة لإشكالية ممارسة الفتاة لسلوكيات الشاب، فهل يعني ذلك أنَّ هذه الأسر غائبة فعلاً عن المشهد التربوي والإرشادي؟ أم أنَّ المؤسسات الاجتماعية والتعليمية المعنية غائبة عن المشاركة بدور فاعل تجاه حماية هؤلاء "البويات" من الانحراف النفسي والفكري؟
اضطرابات نفسية
وأشار د. محمد القحطاني - أستاذ علم نفس مشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - إلى أنَّ انتشار حالات "البويات" لدى بعض الفتيات من الموضوعات المهمة الموجودة في المجتمع، التي تحتاج إلى توجيه وإرشاد، حتى لا تتضخم وتكبر وتتحول إلى ظاهرة، موضحاً أنَّ هناك أسبابا اجتماعية لتحول الفتاة إلى "بوية"، إذ تتمثل في تأثير بعض المقربين منها فيها، كالصديقات المقربات اللاتي تقتدي بهنَّ وتقلدهنَّ في اللباس، وفي جميع سلوكياتهن.
وأضاف أنَّه يتم أيضاً تعلّم مثل هذه السلوكيات "المسترجلة" من خلال الأسرة بطرق غير مباشرة قد لا تعيها الأسرة، وهذا خطير جداً، خاصة حينما تتربى الفتاة في بيئة جميع أفراد الأسرة فيها ذكور دون وجود أيّ إناث، وبالتالي فإنَّه من الممكن أن تصبح الفتاة "مسترجلة"، مُشيراً إلى أنَّ لوسائل الإعلام دورا كبيرا في هذا الشأن، حيث إنَّ بعض تلك الوسائل تعرض مسلسلات تتطرق إلى نموذج الفتاة "المسترجلة"، التي تعاني من اضطرابات نفسية.
وبيَّن أنَّه من الممكن أن تؤثر مثل هذه النماذج على شخصية المتلقي، كما أنَّ الفتاة المسترجلة تجد تعزيزاً لمثل هذه السلوكيات، من خلال المحيطين بها، مُضيفاً: "هناك من الفتيات من يعجب بمظهرها ويثني على شكلها، فبدلاً من أن تطيل شعرها، فإنَّها تقصره بشكل يشبه مظهر الشاب، إلى جانب مضاعفة ارتداء الثياب التي تحاكي ثياب الرجل، من خلال بعض عبارات الثناء كأنت جميلة، أو ثيابك مختلفة، فتعزز ذلك السلوك لديها، في ظل غياب نقص التوجيه والإرشاد".
هرمونات ذكرية
ولفت د. القحطاني إلى أنَّ بعض الأمهات يتهاونَّ في ذلك، كما أنَّ بعض المعلمات يتبرأن من المسؤولية، وذلك مع تزامن قلة الحلقات التثقيفية في هذا الشأن، إلى جانب تقليد بعض الثقافات الغربية التي لا تجد في تحول الفتاة إلى "بوية" سلوك غير مقبول، وبالتالي يكثر مثل هذا الاسترجال، وقد يتزامن ذلك كله مع قلة الوازع الديني لدى الفتاة، إلاَّ أنَّ هناك أسبابا أخرى تتعلق بالهرمونات، إذ أثبتت الدراسات أنَّ بعض الإناث تكون لديهنَّ الهرمونات الذكورية أكثر من الهرمونات الأنثوية، وللأسف لا يتم معالجة مثل هذه الحالات.
وأوضح أَّن هناك أنواعا كثيرة للعلاج، إلاَّ أنَّ ما يؤثر على العلاج سلباً هو الاعتقاد بمفهوم الحرية لدى الثقافات الغربية، فمثل هؤلاء المسترجلات – للأسف - تدخل على قنوات التواصل الاجتماعي وتطلع على ثقافات الدول الغربية، التي لا تُنكر على المسترجلة مثل هذا السلوك فتتأثر بتلك الأفكار، وأضاف: "حينما نتحدث –كأخصائيين - مع الفتاة البوية ونشير إلى أنَّها تعاني من اضطراب نفسي جنسي وأنَّ السلوك هنا غير سوي، فإنَّنا نجد أنَّ الفتاة المسترجلة ترد بقولها: (إنَّ الثقافات الغربية التي علمتكم هي من تؤكد على حريتنا في ممارسة مثل هذه السلوكيات)".
وأكَّد أنَّ الثقافات الغربية أثرت على أفكار هؤلاء الفتيات بعيداً عن مراعاة التوجّه الديني، مُضيفاً أنَّ العلاج يجب أن يبدأ منذ الصغر، لافتاً إلى أنَّ الأسرة يجب أن تلاحظ الطفل منذ الطفولة، فإذا ما ظهرت عليهم مثل هذه العلامات، فإنَّه يجب أولاً فحصهم "فسيولوجياً"، إلى جانب العمل على توجيههم، على أن تعمل الأم على تعزيز الهوية الجنسية لدى الفتاة، من خلال كلمات ثناء على جمالها وعلى ثيابها الجميلة، مُشدِّداً على أهمية اختلاط الفتاة منذ الصغر بفتيات أسوياء، مع مراقبة صداقات المدرسة.
وأضاف أنَّه ينبغي تغيير مدرسة الفتاة إذا ثبت وجود شذوذ سلوكي لدى بعض الطالبات، إلى جانب محاولة خلق وسط من الصحبة الإيجابية، وكذلك توثيق علاقة الأم مع ابنتها، إذ أنَّ البنت لن تقتدي بالأم إذا ما كانت الأم بعيدة عنها، وبالتالي فإنَّها قد تبحث عن البديل لتقلّده، مُشدِّداً على أهمية دور وسائل الإعلام في توعية الفتيات بمخاطر هذا السلوك.
ضياع الهُويَّة
وقالت مها المسلم - متخصصة في علم الاجتماع -: "ممَّا لا شك فيه أنَّ نمو الإنسان في كافة جوانبه يعتمد على التربية الأسرية التي تلقاها في صغره خلال السنوات الست الذهبية، ولذا كلما تعهد الوالدان هذه المرحلة على نحو سليم، كلما نشأ الإنسان بشخصية سليمة ثابتة وواعية وذات قيم ومبادئ تكفل له المضي بمعتركات الحياة ومفاتنها بشكل محافظ ومتزن، وبالتالي فإنَّ تقمص بعض الفتيات شخصيات ذكورية ومحاكاة الجنس الذكوري، أو ما يسمى بالمصطلح الدارج (بوية)، يُعدُّ انسلاخا تاما من الأنوثة التي خلقها الله عليها".
وأضافت أنَّ ذلك يُعدُّ تحول في التركيبة النفسية والاجتماعية للفتاة المُقلدة، وهذه المشكلة هي من أهم المؤثرات على ضياع الهوية واختلالها، موضحةً أنَّ الفعل الذي تقوم به تلك الفتاة أو الفتى يعود لعوامل جذرية أثرت على أحدهما وأفرزت مثل هذه التصرفات غير السوية وهي عديدة، فإمَّا أن تكون أسرية أو نفسية أو اجتماعية أو ثقافية، مُشيرةً إلى أنَّ الأعراف السائدة والتقاليد المجتمعية تُعدُّ أيضاً محركا قويّا لمثل هذه السلوكيات.
وأوضحت أنَّه فيما يتعلَّق بالعامل الأسري – مثلاً -، فإنَّ تنشئة البنت بين أولاد في أسرة يكون النمط الثقافي السائد فيها هو الحظوة للذكور بينما الأنثى مُهمَّشة تماماً، يُعدُّ نوعاً من أنواع العنف الأسري، ويسمى أيضاً الإهمال، كما أنَّه يدخل أيضاً في العامل النفسي، الذي له عامل كبير وقوي يجعل البنت تتمنى فيه أن تكون ذكراً؛ حتى تنال من الحب والمميزات التي ينالها إخوانها الذكور عنها، فتتحول أمنيتها هذه إلى أن تتقمص شخصية وجنس الولد بكل تفاصيله، حتى تنسلخ وتكبر وهي من الداخل تشعر أنَّها ذكر وليست أنثى، فتفقد هوية الجنس لديها.
تصورات ذهنية
ولفتت مها المسلم إلى أنَّ الدافع لمثل تلك التصرفات قد يكون على هيئة عامل نفسي يتمثَّل في انعدام الثقة بالنفس، أو نتيجةً لعامل اجتماعي يتمثَّل في صراع المكانة الاجتماعية والدور الوظيفي للجنس، وغير ذلك من العوامل التي قد يطغى أحدها على الآخر، كما أنَّها قد تكون مجتمعة بشكل كلي لهذه الإشكالية، مُضيفةً: "لا ننسى أيضاً دور وإغراءات البضائع التي غزت أسواقنا بقوة وانقاد لها الكثير من الشباب والشابات، بحيث أصبح ارتداء الولد بعض موديلات البنت والعكس صحيح من الأمور العادية".
ورأت أنَّ هناك دورا كبيرا لبعض التجار والإعلام الجديد والمواقع التجارية على شبكة "الإنترنت" في سهولة توزيع ونشر بعض البضائع، في ظل ما يسبقها من دعايات تؤثر على التصورات الذهنية للجنسين، الأمر الذي له أثر بالغ فيما يتعلَّق بسهولة تقليد كل طرف للآخر، مُشدِّدةً على أهمية دور الأسر في التربية الأسرية الصحيحة وتأسيس شخصيات قوية ثابتة متزنة، إلى جانب أهمية الوعي التام للأبوين في هذا الجانب، مبينةً أنَّ التفرقة بين الجنسين والمقارنات بين الأبناء تهدم نموهم السليم، لافتةً إلى أنَّ للمدرسة دورا مهما ومساندا للأسرة في تعزيز القيم وتعديل السلوك ونشر التوعية وتأصيل السلوكيات التربوية والاجتماعية والنفسية السليمة في شخصيات الطلاب والطالبات.