في مشهد قصير مقتضب، كنت قد شاهدته مصادفة لمسلسل يحمل اسم "ياريت"، ركضت المرأة بغضب شديد تجاه الفنانة منى واصف، والتي كانت تجلس في الحديقة التي لم تهذب أشجارها، وبدا العشب غير متساو في قصه وترتيبه، الفنانة المتألقة منى واصف تجلس على كرسي بلاستيك أبيض وقذر، وبجانبها فتاة لم أعرف صلتها بالمشهد سوى صمتها بالغ العفة، وبكائها في نهاية المشهد الذي لم يكد يستغرق أكثر من 65 ثانية فقط، الحكاية بدأت حينما انفجرت المرأة بالصراخ على منى واصف، طالبة منها الخروج من بيتها وعلى الفور، بينما كانت واصف تتلقى الكلمات الصادمة والعنيفة بهدوء زاعق، ولا تزال متمسكة بالكرسي الذي بالكاد عليك أن تتذكر لونه، الكلمات التي بقيت في رأسي ما قالته المرأة الحزينة، بأنها لأيام لم تتمكن من النوم بعد هروب ابنتها إلى بيروت مع الشاب الذي أحبته، وهي لا تعلم ماذا حل بها أو سيحل بها؟ وكالت الأم بأسباب هروب ابنتها إلى منى واصف، فهي من دفعتها كي تتجرأ وتهرب من البيت، بعد هذه الكلمات العسيرة قمت بتغيير القناة، ولم أكمل بقية المشاهد التالية، اكتفيت بالكاميرا وهي تصوب عدستها نحو ملامح واصف التي اجتثت من تربتها، وماتت خلال خمس ثواني فقط، فيما اهتزت الفتاة الصغيرة بدموعها متأثرة بما قالته الأم الذائبة في الخذلان!
بعد هذا المشهد الدرامي العنيف، رغماً عنك ستتحول مختلف الصور أمام عينيك إلى مجرد نقاط سوداء لا حياة بها، لقد تألمت في الحقيقة من صوت الأم الحانق ودموعها وفزعها الشديد والخوف على ابنتها الهاربة، حينها أحسست بأنه يجب عليّ أن أكتفي بهذا القدر من الأسى، ولم أكد أغير القناة حتى وصلني عبر هاتفي الجوال خبر عاجل، عن قيام مواطنة ثلاثينية بنحر طفلة زوجها في الأحساء، الطفلة ريم الرشيدي لم تتجاوز السادسة من عمرها، ونحرتها زوجة أبيها أمام بوابة مدرستها، والأسباب لا تزال مجهولة حتى الآن، ولا تزال فتيات وسيدات التواصل الاجتماعي في "تويتر" نائمات حتى هذه اللحظة، ولم يبادرن لذر الرماد في أعيننا، نتيجة لما قامت به زوجة الأب، ولربما لا زلن يبحثن عن الكيفية الجيدة التي يستطعن من خلالها ربط مقتل الطفلة بأي حدث محلي يتعلق بالرجل، مثلما فعلن سابقاً حينما شجعن الفتيات على الهروب، بل وصفقن لما قامت به المراهقة الصغيرة شهد، حينما رحلت إلى جورجيا، والتمجيد لإسقاط الولاية من الرجل، الذي لا ولاية لهُ على المرأة إلا في أمرين: رعاية من لم يبلغن الرشد من القصر، وأمر الزواج، ولا أعتقد أن المرأة في السعودية تتسكع في مدينتها أو قريتها وفي حقيبتها صك من وزارة العدل، يثبت تبعيتها لأي رجل وكأنها شاه!
المهم في الأمر، أنني ما زلت حتى الآن أنتظر "هاشتاقا" مُسلياً، كضرورة إسقاط الولاية عن زوجة الأب، حتى يعيش المجتمع في نظرهن بشكل آمن!
مشاهد مقتل الأطفال لم تصبح ظاهرة بعد في المجتمع السعودي، ولكنها بدأت تتكرر بصورة انفعالية وسوداوية في مختلف أرجاء الوطن العربي، تتضرر الأم من سوء أخلاق طليقها في مصر، فتقوم بذبح طفلها حتى تحرق قلبه، ويحدث العكس أيضاً في ذات الوطن، وفي السعودية قصص لا يمكن أن تتلاشى من ذاكرتنا، ذهب الأطفال فيها ضحية للعنف الأسري، والعنف ليس مخصصاً للإناث فقط، وإنما يتساوى الجنسان في ذات الإهانة والتعذيب، وأغلبها إما نتيجة لتعاطي المخدرات والمسكرات من أحد الوالدين، أو بسبب الخلافات بينهما بعد الطلاق، فيستغل أحد الأطراف ضعف مشاعر الطرف الآخر تجاه أطفاله، فيقدمهم ضحايا كيلاً لهُ أو لها.
تم القبض على الثلاثينية قاتلة ريم الرشيدي وإيداعها السجن والتحقيق معها، هذه الأمور لا أظن يمكنها أن تشغل أحدنا، فالقانون لدينا واضح وصريح جداً، المشكلة الأكبر التي علينا أن نقف أمامها، هي مشاعر أطفال مدرسة ريم، حينما يتناهى إلى مسامعهن ما حدث لريم، وكيف انتهت حياتها؟ وإذا ما تألمت ريم أثناء نحرها أم لا؟ وهل السكين يمكن لها أن تقتل إحداهن؟ وهل من الممكن أن تأتي أي امرأة لقتلهن؟ أعرف مشاعر الأطفال جيداً، وأعرف كم الأسئلة التي يطرحونها بشكل يومي، ولا يشعرون بالتعب من تكرار أسئلتهم، أنهم لا يستطيعون أن يتعاطوا في حقيقة الأمر مع فكرة الموت، ولهذا ترفض العديد من الأمهات تبني أي حيوان أليف لأطفالهن، والسبب يعود لمعرفتهن كأمهات بمدى ضحالة إدراك الأطفال، وعدم قدرتهم على تقبلهم لفكرة الموت أو الفقدان، ويعتبر الأمر مسؤولية عظيمة تفضل الأم عدم تحملها، أن تبقى يومياً مع طفلها تطبطب على قلبه، وهي تحاول أن تعيد له تأطير مفهوم الموت والفقدان بطريقتها الخاصة، لفترة طويلة تحاول أن تعيد لطفلها تأطير فكرة الموت والفقدان، وكيف هو الموت، ولونه، وشكله، وهل يرتدي قناعاً؟ أم أنه مجرد شبح؟ والأسئلة المتكررة المعتادة، لماذا يموت الآخرون؟ وكيف لهم أن يعيشوا من دون أن يستطيعوا رؤية ما فقدوه مرة أخرى؟
الآن، الدور الأكبر على معلمات ومديرة مدرسة الطفلة المنحورة ريم الرشيدي، في إعداد مشاعر الطالبات الصغيرات، من دون "هاشتاق" لإسقاط الولاية من زوجات الأب، فما زال بعضهن فيه الخير.
سارة مطر- الوطن السعودية-