حمزة الطيار- الرياض السعودية-
جاء الشرع الحنيف بمراعاة مصالح الناس، وصيانة حقوقهم، وتوفير كرامتهم، ومن هذا المبدأ قرّر جعل الولي من شروط النكاح التي لا يصح إلا بها، إكراماً للمرأة بجعل امتلاك عصمتها حَدَثاً مهمّاً لا يتأتّى بين طرفي العقد فقط، فيُبَاينُ سائر العقود، وتكون له ميزة خاصة تنمُّ عن مكانته العظيمة؛ ولأهميته سمّاه الله تعالى في كتابه ميثاقاً غليظاً، ومن شأن المواثيق الغليظة أن يُحتاط لها كثيراً؛ لأن الخلل متى حصل في الميثاق الغليظ أثّر أثراً عظيماً، وهذا حاصلٌ في النكاح، فإذا بُني على أسسٍ غير متينة، وآل إلى الانهيار تسّبب عن ذلك عدد كبير من الحزازات والمشكلات، وربما سبب ذلك قطيعةً بين الأقارب، أو بين الأصدقاء، لكنّ تفويض الولي بالنظر في تزويج المرأة ليس من باب تمليكها له، فلم يأذن له الشرع في أن يعضلها، بأن يمنع تزويجها من كفءٍ رضيت به، وعضل النساء من أنواع الجور الكبيرة، وتترتب عليه آثار سلبية كثيرة على الأفراد وعلى المجتمع، والعضل له أسباب منها:
أولاً: التّنطع في تطبيق مبدأ الكفاءة، والكفاءة مُعتبرة شرعاً، وفي الصفات المعتبرة فيها خلاف بين الفقهاء، ويُرجعُ إلى العلماء في بيان ذلك، ولا ينبغي أن يستبدَّ كل وليّ بتقرير ما يشاء منها، وإنما يقع بعض الأولياء في العضل بسبب سوء فهم الكفاءة، فَيَرُدُّ نسيباً حسيباً ذا دينٍ ومروءةٍ لا بأس بأموره المادية بحجة عدم الكفاءة، وأن المرأة أرجح منه في بعض هذه الأمور، ومثل تلك الأرجحية لا اعتبار بها، فلا يعنى بالكفاءة أن يتطابق حال المرأة، وحال الزوج حذو القُذّة بالقُذّة، فمثل ذلك مُتعسّرٌ، وتفاوتُ الناس في الحظوظ المشتركة أمرٌ كونيٌّ، وقد يَرجحُ في صفةٍ من يكون مرجوحاً في أخرى، والنكاح من ضروريات الحياة، فلا يتوقف على شروطٍ تعجيزية.
ثانياً: الغيرة الزائفة على المرأة، وليس هذا من الغيرة الحقيقية في شيء، فالغيرة الحميدة إنما هي استنكافُ أن يحومَ حول المرأة من لا تحلُّ له، أما ما أحلّه الله من الزواج فليس محلاً لها، ولا ينقضي العجب من أبٍ يعضل بناته لهذا السبب، ولا يتذكر أن ناساً آخرين زوّجوه ابنتهم، وأن فكرته الغريبة لو عُمّمت بين البشرية لانقرضت!
ثالثاً: الاستفادة من خدمة المرأة في البيت، وهذا من أقبح أسباب العضل؛ لأنه عبارة عن النظر إلى المرأة باعتبارها مُجرّدَ مُساعدٍ على خدمات البيت، وإغفالُ واقعها الحقيقي وهو كونها لبنةً مهمةً في بناء المجتمع، وهضمٌ لحقّها في أن تكون ربة بيت تمارس فيها حياتها كسائر نظيراتها.
رابعاً: الاستفادة من راتبها، وقد كان أهل الجاهلية يمارسون هذا مع يتامى النساء اللاتي في حجورهم، فَنُهوا عن ذلك، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها، في قوله تعالى: «وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ»، قَالَتْ: «هَذَا فِي اليَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِي مَالِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا، فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا، وَلاَ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِي مَالِهَا»، متفقٌ عليه، والنهي عن عضل المرأة لمالها ينطبق على الأب والأخ وغيرهما؛ لأن العلّة فيه الظلم الحاصل في جميع الصور.
خامساً: النظر بأن ذلك إضرار بالزوج الذي سيراجعها إن كانت مطلقة، وهو في الحقيقة إضرار بالزوجة في الحال نفسها، وقد ورد النهي عن هذا النوع، فعن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ المَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: «فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ» فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ» أخرجه البخاري.
وللعضل سلبيات كثيرة لا تخطئها العين منها الوقوع في ظلم المرأة، والتعدّي على حدود الله جل وعلا وأحكامه، وتعريضها للآثار النفسية والمادية والاجتماعية المترتبة على عنوستها، وحرمانها من الزواج الذي هو حصنٌ لها، وأقسى هذه السلبيات ما تتعرّض له عند ما تصير كبيرةً لا ولدَ لها، وترى مثيلاتها لهنّ أحفادٌ وأسر، ومثل هذا الألم لا يكاد جرحه يندمل، ومن الآثار السلبية للعضل تكثير العنوسة في المجتمع، وإذكاء العداوات والشحناء بين الأقارب بسبب رد الخاطب بلا مبرر، ومنها حرمانها من رجوعها لزوجها الأول، واستئنافهما لحياتهما، فينتج عن ذلك مفاسد وأضرار يدفع أولادهما ثمنها.