مهنا الحبيل- العربي الجديد-
باتت الدولة السعودية اليوم تحت مجهرٍ مركّز، ساهمت فيه الأزمة الخليجية، لكن منطلقه أصبح ذاتياً في تركيز الإعلام الغربي، واهتمام الوطن العربي والعالم الإسلامي، بسبب خصوصية الحالة السعودية، سواء في قوتها المادية، أو للجغرافيا السياسية التي تمثلها حدودُها، أو لأسبابٍ فكرية وثقافية، بحكم أن الدولة تحتضن تحت سيادتها السياسية إقليم الحجاز، حيث الحرمان الشريفان.
وأحد الملفات الحرجة هي قضية المرأة في المملكة وانفجارها الثقافي، وتتالي حالات اللجوء التي تحتضنها الدول الغربية، بصفة خاصة، فتعلن، على الفور، تخلي "لاجئات" عن الإسلام، وتعرّضهن للعنف المجتمعي والأسري، ثم محاولات تحويل "الإكس مسلم" السعوديات، لتعزيز الفكرة السلبية عن الإسلام، لا عن المجتمع السعودي وحسب. وأخيراً، تم توظيف هذه القضية في مشروع استهداف الحقوق المدنية، لمواطني الغرب المسلمين تحديداً، في ملفٍّ لسنا بصدد الحديث عنه اليوم، بغض النظر عن البعد الأخلاقي للجوء العرب، والذي تطبقه الدول الغربية. لكن أصل الأزمة التي صعدت على السطح لم يحظ بعناية، ولا بتحليل فكري، واجتماعي، يُساهم في معالجتها وتأمين الحل لضحاياها، وإعادة تأهيل ثقافة الوعي المجتمعي بها، والإجابة عن كيف تتم هذه المراجعة في ظل صعود القمع الأمني، واضطهاد الحقوقيين، وبالذات الحركة الحقوقية النسوية.
جديد الأنباء حالة مروّعة مشينة، لا يقبل بها إنسانٌ، ولا صاحب مروءة، ولا حتى عدو شريف، التي تعرّضت لها، المثقفة العروبية والمناضلة إيمان النفجان، ضمن قمع الحركة النسوية التي قادتها باقتدار وثقة واعتدال وطني وفكري، رائدة الحركة النسوية عزيزة اليوسف. غرض هذه المقالة تسليط الضوء على فكر عزيزة اليوسف وشخصيتها، وهي التي تصدت لهذا الملف مبكّراً، وطرحت تصوّراً جامعاً، بين إعادة التنظيم القانوني لملف المرأة في السعودية الذي بدأت تخرج أصواته في عهد الملك عبدالله، وصناعة ثقافة مجتمعية رشيدة ببعدها الإسلامي، والذي كان يحمل نبضَه الشيخ سلمان العودة، وقلة من منصّات الاعتدال في الخطاب الإسلامي.
بسبب الحصار الذي فُرض على هذا الخطاب، وتوظيف المنبر الديني المتشدّد لصالح فكرة النظام الرئيسية أنه ذو شرعية إلهية مطلقة، وبالتالي سمح للثقافة التلمودية، ويقصد به فكر امتهان المرأة وازدراء حقوقها، لكي ينشر ويبث بدعمٍ مباشرٍ من السلطات، ثم سُعّر الملف خلال الصراع بين جناحي الأمير نايف والملك عبد الله، حيث تم استخدام هذا الاصطفاف الديني والليبرالية الحكومية، لتأجيج هذا الصراع وإشغال الشعب به. في حين مثلت الثقافة التي حملتها عزيزة اليوسف البعد الثالث، والذي كان أيضاً، وبنص حديثها، يخشى على الفتيات من هذا الترحيل الجماعي، وقطع حياتهن كلياً مع أسرهن، وزجّهن في مسارٍ لا عودة فيه مع المجتمع التربوي الأخلاقي الذي يؤمن بالقيم الإسلامية الروحية، وخطاب الاعتدال الأصلي،
ومفهوم الشراكة الوجودية، لا الصراعية بين الرجل والمرأة، ولكن تحت ميثاق قانوني ودستوري، وثقافةٍ تنشر بين أبناء الشعب، لتصحيح البنية التي من خلالها، أخطأت الأسرة في أسلوب خطابها، أو جرائم العنف الشرس التي تحتاج إلى تجريم قانوني، ورادع سياسي لا إلى تلاعب بالملف.
مثلت عزيزة اليوسف، وتيارها العروبي النسوي، حالة فارقة في المشهد، فهي تسعى إلى إصلاح المجتمع، وإنقاذ المرأة المهضومة، وفق تكاملٍ دستوري للحياة الوطنية والسياسية. وعلى الرغم من أنها ليست ضمن قيادات حركة حسم التي تتمتع بإجماع وطني لا تمثله أي ثقافة أخرى، إلا أنها تتحد معها في منظومة القيم، ولدى اليوسف قناعتها بالفكر الإسلامي، وليس قوالب الخطاب المذهبي والديني الذي دُعم من السلطات، وتضخّم في أوج الربيع الأميركي للمذهب الوهابي، أو أزمة هذا الخطاب في الحزبيات الدعوية التي فشلت في بعث الفكرة الفلسفية الخلاقة لشراكة المرأة والرجل.
أدركت أم طارق مبكراً أن هذا الملف يتضخّم، وأن الضحايا يزيدون، وأن عدم تدشين أي معالجة اجتماعية وطنية، على صعيدي الثقافة الشعبية وقوانين الدولة، سيحوّل الأمر إلى حركة تنمّر واسعة، تُدخل الفتيات إلىى قالب صراعي سيكولوجي، ونزعة تطرّف مقابلة، تستهدف الأبوين، وتعذيبهم وجدانياً، والسخرية الشرسة من المجتمع كمجتمع، والطعن في الإسلام باعتباره رسالة، وإعلان تبنّي كامل المشروع الاجتماعي الغربي، في الليبرالية الحديثة التي دعمتها القوة السياسية للغرب، فلا سبيل للفتيات في ظل هذه الأزمة، ومن خلال تضخيم فكرة الصراع العدمي مع الأبوين والأسرة، إلا أن يحل هذا المشهد بهذه الفتاة أو تلك.
تمثل عزيزة اليوسف تياراً عروبياً مختلفاً، وهو التيار الذي لم يعد يؤمن بصراع الفكرة القومية مع الإسلام، بل العكس، الإيمان الرسالي والأخلاقي وصناعة الحضارة المتميزة للعرب التي تؤسس دولتهم الحقوقية الدستورية، وتبني قيمهم ومواطنتهم، وترعى هويتهم الاجتماعية في ظل هذا الفكر، المنفتح على مقاصد الشريعة. وهي لا تتفق مع حالتي الصعود للنرجسية القومية التي مثّلها بعض الخطاب القومي الحديث، حيث فكرة استعلاء الشاب القومي على الإسلام، أو العلمانوية المصنّعة، التي وظفتها السلطة السعودية، وخصوصاً في العهد الأخير، وهذا أحد أهم أسباب صعود شخصية عزيزة اليوسف التي ارتكب النظام ضدها، وضد عدد من الحقوقيات والاسلاميات المحافظات، كوارث أخلاقية لا يرضى أحدٌ أن تنسب لبيته أو شخصه أو دولته.
وما يعنينا هنا هو كيف أن فكر عزيزة اليوسف، وكفاحها، مثّلا قاعدة اتفاق وطني واجتماعي، كان بإمكان النظام أن يُنقذ نفسه من هذا التردّي والمأزق العالمي، بإعطائها صلاحياتٍ كافية، وإسناد حقيبة وزارة المرأة لها، لكنه ظن أن مهرجانات طنطورة وأخواته ستحل له المأزق، وكل ما جرى أن ثلة الفنانين العرب والأجانب جاءوا لأخذ حصتهم من الثروة التي افتتحها ترامب، وتركوا النظام في وجه مواسم الغرب، وكان الانفتاح المعتدل على الحياة والفنون، ورد الاعتبار للمرأة، متاحاً له عبر تلك الثلة الوطنية، فقمعهم، وغرق في اللعبة الغربية.