مبارك الفقيه- راصد الخليج-
التحقت المملكة السعودية بجارتها الكويت، التي سبقتها بسنوات عديدة، في السماح للمرأة ممّن تجاوز سن الـ21 عاماً، بالسفر دون موافقة وليّ أمرها، فضلاً عن تمكين المتزوجات والموظفات المشاركات في مهام رسمية في الخارج من السفر دون حاجة لموافقة ولي الأمر، وبعد ساعات قليلة من إعلان قرار وزارة الداخلية هذا القرار غادر أكثر من ألف امرأة سعودية أراضي المملكة عبر منفذ مناف الحدودي وحده؛ من المؤكد أن عدد النساء السعوديات اللواتي غادرن الأراضي السعودية بموجب هذا القرار الجديد قد تجاوز الآلاف في وقت كتابة هذا المقال.
هذا التدبير الجديد لم يأتِ يتيماً بل جاء ضمن مجموعة تعديلات طالت نظام الأحوال المدنية وأعطت مزيداً من مساحة الحرية للمرأة وصولاً إلى تطبيق قاعدة الحريات الشخصية والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الواجبات، وعلى مستوى السكن والحضانة والأسرة وحقها في العمل وغير ذلك من الأمور التي تندرج ضمن "الثورة التصحيحية" التي بدأها ولي العهد محمد بن سلمان، وركّزت بشكل أساسي على المرأة، وهذا المسار التصحيحي لن يتوقف عند هذه الخطوة، بل ستتبعه خطوات كثيرة وجريئة ومن أهمها السماح بسفور المرأة سواء السعودية منها أم الأجنبية، والسماح بارتداء اللباس غير المحتشم، وهو ما يتماشى مع الرؤية الجديدة لابن سلمان في نقل المملكة إلى طور جديد يتماهى مع العالم الغربي المتطوّر، والخروج من التقوقع الديني والإجتماعي الذي اتّسمت بها السعودية عبر كل تاريخها، وتقديم نموذج جديد مقبول وترضى عنه جماعات الضغط السياسي وتلك المتعلقة بحقوق المرأة.
ومن شأن هذه القرارات الجديدة أن تدخل السعودية في نادي الدول الخليجية التي تعتمد سياسة الإنفتاح على غرار دولتي الكويت والامارات بشكل خاص، حيث تتمتّع المرأة بمساحة كبيرة من الحرية التي تتساوق بشكل وآخر مع النمط الغربي، في ظل اتجاه متنامٍ بشكل هائل في المملكة نحو التخلّص من القيود التي "كبّلت" المرأة السعودية، مما جعل مجموعة منهن يبحثن عن مهرب باتجاه المجتمعات المنفتحة، على غرار نموذجي "رهف القنون" و"نورا" (إيروس) اللتين تتخذان من كندا مستقرّا لهما، واستنفرتا الجمعيات المناصرة لحقوق المرأة، ولا سيما في أوستراليا، للتظاهر ودعم حق المرأة السعودية في ممارسة حريتها في مختلف المجالات، وهاتان الفتاتان شغلتا الرأي العام العالمي عموماً والسعودي خصوصاً بمواقفهما اللاذعة وهجومهما المباشر على القوانين السعودية "المتخلّفة"، إلى جانب الأشرطة المصوّرة التي نشرتاها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتتحدّث بها الأولى عن وقائع مخزية ولا أخلاقية مارستها وتمارسها، أما الأخرى فلا تخجل من اعترافها على الملأ بالشذوذ بحجة "الحق الشخصي وحرية الرأي وحرية العيش".
لا يمكن اعتبار أي قرار سعودي يعطي المرأة مساحة إضافية من الحرية أنه فتحٌ عظيم، بل هو إجراء متأخر سبقتنا إليه المجتمعات الغربية وغالبية الدول العربية والإسلامية، وهناك الكثير من الشواهد على تبوأ المرأة مناصب عليا في هذه البلدان، وتمارس فيها المرأة حقوقها براحة وأمان، ولكن الغريب في الأمر هو ردة الفعل التي تنشأ عند كل قرار من هذا النوع في المملكة، بحيث تبدو النساء وكأنهن كنّ رهن الاعتقال على مدى سنوات طويلة وجاء أوان تحريرهن، أو كأن شخصاً قضى دهراً في الظلام داخل كهف، فما إن رأى النور حتى انطلق راكضاً لا يلوي على شيء - وهذا ما يجري فعلاً - ولكن الأخطر من ذلك بحسب محللين في الشأن الاجتماعي، أن "هذا الانفلات السلوكي لا يمكن وضعه فقط في إطار نمط جديد انتقلت إليه المرأة السعودية، بل إن هذا النمط كان ممارساً بشكل فعلي داخل المجتمع السعودي بشكل مبطّن ومغلق ومخفيّ، ولكنه وجد طريقه الآن ليُمارس بطريقة قانونية أو في فضاء رحب خارج حدود المملكة".
إن حق المرأة يجب أن يكون مصاناً ومحفوظاً بالقول والممارسة بحسب ما جاءت به تعاليم القرآن والإسلام، ولكن ما يحصل اليوم في المجتمع السعودي على مستوى المرأة لا ينسجم مع هذه التعاليم لا بالشكل ولا بالمضمون، ومعظم الدعاة المتشدّدين أصبح اليوم في السجن، وبعضهم رحل إلى العالم الأبدي، وبعضهم غيّر قناعاته تماشياً مع رؤية ولي الأمر في المملكة، وكل ذلك إفساحاً في المجال أمام تحرير المرأة السعودية، ولكن المشكلة تبقى في كيفية ضبط هذه الحرية، فلا يمكن للسجين أن يتقبّل العودة إلى سجنه بعد تحريره، لا بل سيطالب بممارسة هذه الحرية في مجالات أوسع، لا سيما بعد السماح له بالخروج من قوقعته نحو عوالم حرّة كان يحلم به أو يقرأ عنها ويتحسّر على واقعه، ولعلّ خير تعليق على هذا الأمر جاء من أحد أصدقائي الظرفاء حيث قال ضاحكاً: "النساء تتهافت اليوم على السفر إلى الخارج، فلا تعجب غداَ إذا تجوّلنا في شوارع الرياض وجدة فلن نرى فيها إلا رجالاً، فهل يأتي اليوم الذي تصبح فيه السعودية بلا نساء؟"