د.لطـيـفـة الشـعـلان- الخليج الجديد-
بعد أن هدأت الكتابات الاحتفالية بفوز 21 امرأة في أول انتخابات بلدية شاركن بها في السعودية، جاء وقت السؤال المهم: كيف حدث هذا؟
سؤال لا بد أن يبحثه صناع القرار والنخب، لأن الإجابة ربما تفيد في طبيعة وتوقيت خطوات التمكين المقبلة. مع إيماني بأن الحقوق لا ينبغي أن تكون رهناً لما يُسمى رأي المجتمع، فلا بد من فرضها لأنها حقوق، ومآل الرافضين في ظل نظام مستقر، أن يستوعبوا ما رفضوه، وتاريخنا الاجتماعي خير شاهد.
كانت المفاجأة يوم السبت 12 كانون الأول/ديسمبر كبيرة، لم يتوقعها أشد المتفائلين، فهي أول انتخابات تدخلها المرأة السعودية مرشحة وناخبة، في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات محافظة.
النتيجة كسرت كل التوقعات المسبقة، التي بُني بعضها على تصورات معينة للاتجاهات السائدة، وبُني بعضها الآخر على مقارنة بالتجارب المشابهة في الدول المجاورة، حيث كانت الخسارة المجلجلة هي حظ النساء في الدورات الأولى.
أحد أهم الأسباب التي قادت من وجهة نظري إلى هذه النتيجة المبهرة في الانتخابات البلدية، هو دخول النساء إلى الشورى للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات. أزعم أن مشاركة النساء في الانتخابات البلدية، لو كانت سابقة على دخولهن الشورى، لجاءت النتيجة مختلفة كلياً عما رأيناه.
في بداية تعيين النساء في الشورى، جُوبهن بموجة تشويه وتحريض شنيعة، إلى درجة نشر مقاطع «يوتيوب» ضدهن بخلفية من الأناشيد الجهادية. كما انطلقت موجة سخرية حادة منهن عبر مواقع التواصل، شاركت فيها نساء ضد النساء.
التقيت خلال تلك الأيام بالرائدة النسوية لولوة القطامي في زيارتي إلى الكويت. كانت السيدة اللطيفة حلوة الروح حاضرة البديهة رغم السنين، فتكلمت عن شراسة ما جابهن في تاريخهن من حروب، لكن القافلة استمرت. هو منطق التاريخ الاجتماعي الذي تعرفه جيداً، لكنك بحاجة إلى من يُذكرك به في لحظة ما.
اليوم من الواضح أن تجربة المرأة السعودية في مجلس الشورى، عبّدت الطريق لوصول النساء إلى مقاعد المجالس البلدية، وهذا تمكين تراكمي مهم لن يقلل من أهميته أي حديث آخر عن محدودية صلاحيات هذه المجالس. أجريت الانتخابات وفازت النساء في هدوء تام، من دون حملات تحريض، ولا عاصفة من النكات الساخرة.
إن تمثيل النساء في المؤسسة التشريعية كسر أهم الحواجز النفسية، وهشّم حصون الممانعة في عقول الناس. حدثت الخضة الكبرى وشاشات التلفزة تنقل مراسم القسم الذي أداه أعضاء الشورى، ومنهم السيدات، بين يدي الملك عبدالله (رحمه الله). حدث جديد لم يعهده الناس، ولم يخطر لهم على بال. تبعه لاحقاً مشاركتهن في مراسم البيعة لخادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان.
رأى المجتمع المرأة شريكاً مساوياً للرجل في مجلس يرتبط بالملك مباشرة. حتى تواجدها ضمن فضاء المجلس أخذ شكلاً مدنياً غير مسبوق في مؤسسات الدولة كافة، وصار معياراً مرجعياً لطريقة التواجد الأمثل للمرأة.
بات مجلس الشورى مع دخول النساء أكثر حيوية، وازدادت سخونة الحراك تحت قبته، وأصبح جاذباً للنقاش الإعلامي والاجتماعي في شكل يفوق الدورات السابقة. أثبتت المرأة وجودها في الشورى، مما أعطى الثقة في قدرات النساء.
إحدى الصور النمطية الرائجة في المجتمع السعودي، تُصوّر العاصمة الرياض بأنها ذات مزاج متشدد، مقارنة بمدن سعودية أخرى. لكن المفاجأة كانت مجيء الرياض في المرتبة الأولى، بأكبر عدد من المرشحات الفائزات، حيث احتلت النساء ستة مقاعد في المجالس البلدية.
من كان يتصور أن مدينة صغيرة في عمق نجد هي «ثادق» سوف تدفع بإحدى نسائها في انتخابات مباشرة إلى المجلس البلدي؟!
ومن كان يتصور أننا سنرى المرشحات في قلب «بريدة» التي يعتبرها البعض مدينة عصيّة على التغيير، وهن ينقلن عبر مواقع التواصل أخبار حملاتهن الانتخابية؟!
هل أصبح تمثيل النساء في الشورى محركاً فاعلاً لخلخلة البنى التقليدية في المجتمع؟ يُترك هذا السؤال للتاريخ.
السبب الآخر الذي ساهم في هذه النتيجة، هو التغيير الذكي الفطن الذي جرى على النظام الانتخابي نفسه، وهذا يلفت انتباهنا لأهمية تعديل التشريعات، في سبيل الإصلاح. تم تغيير بعض النصوص بعد تجربة الدورة الأولى عام 2005، وعليه لم يعد للناخب الحق سوى في التصويت لمرشح واحد.
انتهت بذلك صرعة القوائم الذهبية التي انتشرت في الدورة الأولى، وأدّت إلى اكتساح ممثلي تيار واحد، عن طريق التكتل في قوائم زكّاها بعض الدعاة.
هذا التغيير في نظام الانتخابات أبطل أي فائدة للقوائم حتى لو تمت، وأعطى العملية وجهها الحقيقي، وهي أنها انتخابات بلدية، لا سياسية كما بدا لمتابعي الدورة الأولى. التعديل النظامي الذي صب في مصلحة العملية الانتخابية ككل، جعل المرشح يقف ببرنامجه منفرداً أمام ناخبيه، من دون تزكية ذات طابع خاص، وهذا أفاد جميع المرشحين بمن فيهم النساء، وربما لم يخسر منه سوى الرابحين في الدورة الأولى.
أيضاً لا يمكن إغفال دور العمل المنظم الذي قامت به بعض الهيئات غير الحكومية لبث التوعية، ونشر الثقافة الانتخابية، وتدريب المرشحات والناخبات، من خلال الحملات والبرامج التي كانت مستمرة في كافة المناطق، بإشراف نساء وطنيات يعملن بمثابرة وإخلاص وحنكة، وظهر واضحاً ريادة جمعية «النهضة» ومبادرة «بلدي».
الراصد سيلاحظ نهجاً سعودياً متصاعداً منذ عقد ونصف لتمكين المرأة، تقوده الحكومة مدعومة من النخب. وقّع الملك عبدالله حين كان ولياً للعهد نيابة عن الملك فهد (رحمهما الله) على اتفاقية «مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة» (سيداو) أثناء مشاركته في قمة الألفية الثالثة في نيويورك التي عقدت في أيلول (سبتمبر) 2000.
فكان تاريخ التوقيع محملاً بدلالة رمزية، لارتباطه بالألفية الجديدة التي يدخلها العالم، وكأنه إيذان بتاريخ جديد للتعاطي مع موضوع المرأة. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، أعلن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان فوز مرشحة السعودية ثريا عبيد، بمنصب وكيل الأمين العام والمدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للسكان. كانت السعودية واحدة من ست دول تنافست على المنصب، فكان ارتباط التوقيع على «سيداو» وفوز عبيد، لحظة تاريخية لمن فهم مغزاها.
من الجلي أن تمكين المرأة العربية ليس دائماً رهناً للكفاح النسوي البحت، فأحياناً يكون التمكين نتيجة شراكة بين النسويات والتوجه التقدمي في هرم السلطة، كما في الحالة التونسية زمن بورقيبة، أو نتيجة لإصلاحات حكومية كما في التجربة الإماراتية، حيث يحدث تقدم جوهري في وضع المرأة يلامس التشريعات والتمثيل في المناصب القيادية. ليس في الإمارات تاريخ للنسوية ونالت فيها المرأة ما لم تنله في الكويت ذات التاريخ النسوي.
وينبغي أن لا يغيب عن البال أن ما سماه أنغلز الانكسار التاريخي الكبير للمرأة، مع اكتشاف المعادن واتساع نطاق الزراعة وتراجع المرأة كقوة منتجة أمام الرجل الذي صار مالكاً للأرض وللمرأة ذاتها، هو الانكسار الذي نرى ذيوله في العصر الحاضر. فالنساء حتى في دول مثل فرنسا وبريطانيا لم ينلن حقوقهن السياسية والمدنية بيسر وسهولة.
ونسب توظيف المرأة أقل من الرجل في الحكومات والمنظمات على مستوى العالم، بما في ذلك اتهامات تُساق للأم المتحدة نفسها الرائدة في مكافحة التمييز، بأنها لا تُوظف النساء كما يجب، في أعمالها المؤسسية والتفاوضية. وفي اللحظة الراهنة، لا توجد دولة في العالم تحظى فيها المرأة بذات الوضع القيادي أو التأثير السياسي الذي يحظى به الرجل، فالقرارات التي تُوجه مستقبل الأرض في شكل حاسم، يأخذها الرجال.