لمياء باعشن- المدينة السعودية-
قيادة السيارة من المقعد الخلفي قيادة السيارة ليست بالضرورة في الإمساك بالمقود، ولا في الجلوس في مقعد السائق الأمامي. القيادة الحقيقية هي في مراقبة الطريق، والتحسّب للسيارات المجاورة والمتقاطعة، وفي التوجّس من السيارات المسرعة والمتّهجمة. المرأة في المقعد الخلفي هي ملكة السيارة، وهي المتحكّمة في خطوط سيرها، والموجّهة لكل مشاويرها، وهي صاحبة الشأن بلا منازع، والآمرة الناهية فيها. من مقعدها الخلفي لا تتوقف المرأة عن ممارسة دورها كدليل يرشد السائق في الاتِّجاهات التي تريدها، فتظل متأهّبة لإبقاء السيارة في المسار المطلوب، وتحرص كل الحرص على ألاّ تفوّت اللفّة يمينًا أو يسارًا، وإلاَّ طال المشوار، وتأخّر الوقت، وازدادت مسؤوليتها للبحث عن خط الرجعة من الشوارع الخلفية الضيّقة.
صحيح أن المرأة تسلّم روحها على الطريق لمهارة السائق، أو انعدامها، لكنّه هو والسيارة يسلّمان قيادهما لها، وهو لا ينفّذ أوامرها فقط في توصيلها للمكان الذي تريد، ولكنه ينتظر منها تحريكه يمينًا ويسارًا كما تشاء، لذا فهي في حالة تنبّه مستمر لتصدر له الأوامر في وقتها المناسب: خد يمين، روح سيدا، لف يسار، سوّي يوتيرن، ولو أنها لم تبق عيناها على الطريق، وغفلت عن سائقها لوهلة لانتهت في مكان آخر لا تريده. وبين الفينة والأخرى تلتقط عيون المرأة من مقعدها الخلفي تهوّرات بعض السيارات المقتربة من سيارتها فتصرخ في السائق: انتبه، بشويش، اطلع بسرعة، لا توقف، سوي إشارة يمين. وفي معظم الأحيان يكون هذا السيل المستمر من الأوامر الصادرة من الخلف، والواردة إلى الأمام جافًّا ومفاجئًا وعاليًا، لذلك فهو مربك للسائق المسكين الذي ينتهي به الأمر إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء، فيزداد ارتفاع الصوت القيادي، وربما زيّنته بعض الشتائم.
معذورة هذه القائدة الخلفية للسيارة إن تفوّهت بكلمة غير لائقة، فالتلفظ بأبشع الكلمات على الطريق جزء أساس من بروتوكولات قيادة السيارات من حولها، وهي وإن لم تمسك بالمقود في يديها، إلاَّ أنها تجلس على أعصابها، وفي حالة استفزاز، وتستشعر مسؤوليتها الضخمة بالعبور بسيارتها من نقطة الانطلاق إلى نقطة الهدف بسلام وأمان. الوضع بالنسبة للمرأة، وهي تقود سيارتها من الخلف شديد التعقيد، فالخطة في رأسها هي، والمقصد في نيّتها هي، والمخاطر في عينيها هي، والمقود في يد غيرها، وهناك فارق -وإن كان بسيطًا- في التوقيت بين ترجمة كل ما تريده إلى كلمات، وبين توصيله إلى مسمع وفهم السائق.
من مقعدها الخلفي ترقب القائدة الطريق الشرسة، وتدرك أن الأخلاق المرورية متهاوية من حولها، خاصة أن سائقها وافد يسهل التطاول عليه، فتتحاشى السائقين الذين يعتقدون أنهم امتلكوا الشارع، وتتفادى طيش سائقين يتنقلون من مسار إلى مسار بسرعة جنونية غير آبهين بسلامة أحد، حتى أنفسهم. في وسط غابة السيارات المتنافسة بأنانية جلفة على الطريق، تظل هي تأمر المُمْسك بمقودها أن يخفف سرعته، وأن يتنازل عن مكانه في الصف، وأن يخرج عن مسار يطالب به سائق عنيف، وأن يتوقف احترامًا لسائق كبير في السن تحيط به سيارات قد اعتلت الأرصفة وهي تزمجر.
في غابة السيارات تتبسم الملكة وهي تدير مملكتها بحكمة وذوق، وهي قد تكون بعيدة عن المقود، لكنها في موقع القيادة، على الطريق العام، وفي قلب المعمعة.