هادي اليامي- الوطن السعودية-
أثارت قضية عدم تكافؤ النسب بين الأزواج جدلا واسعا في أوساط المجتمع، بين فئة لا زالت تعيش بعقليات لم تتجاوب مع تعاليم الدين الواضحة، ولم تستوعب قوله تعالى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ولم تدرك أبعاد قوله صلى الله عليه وسلم: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، ولم تساير روح العصر الذي يرفض التمييز بين الناس، على اعتبار أجناسهم وأنسابهم، وفئة أخرى ظلت تدعو للسير باتجاه المساواة التي كفلها القانون الإلهي والقوانين الإنسانية.
ومن المؤسف أن بعضا من الأسر التي نشأت في بلادنا وقعت ضحية لهذه الممارسات لأسباب متعددة، فهناك من الآباء من تجاوز هذه النظرة العنصرية، وقام بتزويج ابنته ممن يراه أهلا لها، بحساب الدين والخلق، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"، وأثمر هذا الزواج عن أبناء وبنات، وكان طرفا العلاقة الزوجية يعيشان في سعادة ورضى، إلا أن بعض الأبناء –بعد رحيل آبائهم– يبادرون إلى رفع الدعاوى القضائية لإنهاء تلك العلاقة الزوجية الناجحة، لأغراض ظاهرها عدم تكافؤ النسب، وباطنها الرغبة في تحقيق أهداف خاصة، مما أدى إلى هدم تلك الأسر، وفصم عراها، وتشريد الأبناء.
وحسنا فعلت وزارة العدل أخيرا، عندما أزالت من موقعها الإلكتروني أيقونة عدم تكافؤ النسب، لتفادي التناقض بين تصريحات مسؤوليها وممارسات بعض القضاة الذين يتجاوبون مع تلك الدعاوى القضائية التي يرفعها الأولياء، للتفريق بين الأزواج، وهو وإن كان اجتهادا موضع تقدير، إلا أن الضرر المترتب عليه كان يستلزم تدخلا رسميا منذ وقت مبكر من الوزارة والقائمين على أمرها، نظرا لما تسببت فيه من تشويه لسمعة القضاء السعودي وسماحة الدين الإسلامي وقيمه، حيث كان كثير من غير السعوديين يتندرون من ذلك، ويبدون دهشتهم، بل ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى حد التطاول والتجاوز.
وغني عن القول إن في الفقه الإسلامي متسعا وسعة، لإيجاد تشريع قانوني يضع حدا لتلك القضية، ويمنع قبول دعاوى قضائية للتفريق بين الأزواج لذلك السبب، ما دام عقد النكاح قد قام في الأصل على قواعد صحيحة، في مقدمتها الإيجاب والقبول، وتم عقده بواسطة ولي شرعي مؤهل، فالغاية في الفقه من إقرار نظام الأسرة هو إقامة المجتمع المسلم المترابط السوي، لذلك لا يعقل بعد تحقيقها التراجع عن كل تلك الغايات السامية، وتغليب جزئية لا زالت موضع خلاف بين الفقهاء والعلماء، ولم تحظ في أي فترة من فترات التشريع الإسلامي بالترجيح والتغليب.
وإذا تناولنا القضية من وجهة نظر أخرى، نجد أن مجتمعنا السعودي قام ولله الحمد، على قاعدة رئيسية، هي المساواة بين جميع أبناء الوطن، على أساس واضح، هو المواطنة والانتماء، وبات معيار التفاضل بين الناس مقدار ما يبذل من جهد لأجل إعلاء هذا الوطن، والالتزام بالقانون والأنظمة، بغض النظر عن عرق أو دعاوى قبلية، وهذه حقيقة يعرفها القاصي قبل الداني، فلم يكن هناك امتياز لقبيلة دون أخرى، أو لجماعة بعينها. بل خضع الجميع طائعين لحكم القانون، وعلى هذا المبدأ الصارم سار كافة ملوكنا الكرام، لذلك تطورت هذه البلاد في سنوات معدودة، وخطت خطوات كبيرة.
وهناك قضية أخرى لا يجب تجاهلها وهي أن هذه البلاد المباركة التي اختصها الله بأن جعلها أرض الحرمين الشريفين والمقدسات الإسلامية، هي مهوى قلوب المسلمين في كافة أقطار الأرض، فهم ينظرون لها باعتبارها قدوة لهم، ويستدلون في كثير من قضاياهم الخلافية بما هو معمول فيها، وهذه مسؤولية كبيرة تفرض علينا التريث والتروي، وترك الأمور التي تحفها الشبهات والمشتبهات، والتسامي عن أفكارنا القبلية والتقاليد المجتمعية، والتمسك بما هو موجود في ديننا وشرعنا، حتى نظل كما كنا دوما، منارة للمسلمين، ومركز إشعاع يهدي الآخرين.
ويقيني أن الأمر لا يستلزم الضجة التي يحاول إثارتها البعض، فالمجتمع اعتاد على اتباع ما يقره علماؤه الأفاضل، لذلك أرى أن الأمر يستلزم خطوة شجاعة من هيئة كبار العلماء، لإصدار فتوى رسمية تعيد التأكيد على ثوابتنا الدينية الراسخة التي تشربناها منذ نعومة أظافرنا، وتذكر الناسين والمتناسين بالحديث الشهير "الناس سواسية كأسنان المشط"، ونحن على ثقة بأن علماءنا الثقاة يمكنهم إزالة اللبس الذي يعتري عقول البعض، إذا أقدموا على هذه الخطوة، وهم لها بإذن الله كما عهدناهم دوما.
بلادنا تتأهب لقطع خطوات إضافية في طريق تنميتها ورقيها، ويعكف المسؤولون على برامج التحول من اقتصاد النفط إلى اقتصاد متنوع يعتمد على تعدد مصادر الدخل، بما يؤدي إلى إيجاد فرص عمل لشبابنا وأبنائنا، كما أنها مواجهة بتحديات عظيمة تمر بها منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، في مقدمتها تزايد آفة الإرهاب التي تهدد بالقضاء على الأخضر واليابس، وباتت بعض الدول من حولنا مهددة بالتقسيم والضياع، لذلك فإن المصلحة تقتضي أن نترك الاهتمام بمسائل الأعراق والسلالات، وأن ننصرف لتلك التحديات، وأن نصون مجتمعنا، ونحمي وحدته، ونعمل على ما يؤدي لرفعته، بدلا من الانصراف إلى قضايا جانبية، تؤخر ولا تقدم، تهدم ولا تبني.