أسامة شحادة- الوطن السعودية-
من الكتب المتميزة كتاب (موت الغرب) للسياسي الأميركي باتريك جيه بوكنان، الذي شغل منصب مستشار لثلاثة من الرؤساء الأميركيين، ثم ترشح لمنصب الرئاسة، والذي رصد فيه بوضوح الكارثة القادمة للحضارة الغربية، والتي ستقضي عليها وتميتها، الكتاب صدر عام 2006، وقامت مكتبة العبيكان بإصدار النسخة المعربة منه.
ويرى بوكنان أن موت الغرب سيكون من خلال موت الأخلاق أولاً نتيجة لوازم الفلسفة المادية والفردية وأثرها على سلوك الناس بالبحث عن المتعة واللذة بأي سبيل، وكسر كل الضوابط الدينية والأخلاقية من أجل تلك الغاية وحمى الاستهلاك لدرجة الهلاك، وبحسب عبارة بوكنان نفسه «حتى نهاية الخمسينيات في أميركا كان الطلاق يعد فضيحة، والعيش معاً بلا زواج قمامة بيضاء، والإجهاض تقززاً، فيما العلاقات الشاذة كانت الحب الذي لا يجرؤ أحد على النطق باسمه. أما اليوم غدت كل هذه المحرمات ممارسات مألوفة ومسموحا بها وغير مستهجنة».
وموت الغرب ثانياً من خلال الموت الحقيقي البيولوجي والديموغرافي للدول والمجتمعات، بسبب زيادة معدل الوفيات على معدل المواليد نتيجة عزوف الشباب والشابات عن الزواج وتكوين أسرة، والاكتفاء بالعلاقات المحرمة التي لا التزامات فيها، بل المتعة والرغبة هي بوصلتها، ونتيجة لذلك فإن تحمل مسؤولية إنجاب الأطفال ورعايتهم تصبح مسؤولية ثقيلة تعطل انطلاقهم في مستنقع الحرام والشذوذ واللذة البراقة والمسمومة!.
واليوم، فإن واقع الغرب وأوروبا يؤكد صدق نبوءة بوكنان بموت المجتمعات الغربية، ومن تلك المؤشرات تصريحات منسقة الأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني في عام 2017 بأن أوروبا بحاجة إلى المهاجرين من أجل اقتصادها بسبب شيخوخة دولها، ومن هنا نبع توجه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لقبول اللاجئين السوريين لتجديد دماء وشرايين المجتمع الألماني ومصانعه، قبل أن يعترض عليها اليمين المتعصب ويعرقل مساعيها.
وللأسف فإن مجتمعاتنا العربية والإسلامية بدأت تقتدي بالمجتمعات الغربية، فقد تأثر عدد كبير من أبنائنا بالأفكار المادية والفردية عبر الإعلام والمخالطة والعولمة، وانعكس ذلك على سلوكهم، فظهرت موجات متفرقة في عدد من البلاد العربية والإسلامية من عبدة الشيطان والشواذ والملحدين، فضلا عن تفاقم مشكلة المخدرات والفواحش، بل وصل الحال أن تكرر ظهور أصوات نشاز في عدد من وسائل الإعلام تطالب بعلنية الدعارة أو تعدد الأزواج! فضلاً عن الجهود المنظمة في عدد
من البلاد العربية والإسلامية، لتطويع القوانين الاجتماعية والأحوال الشخصية التي لا تزال تتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية، لتتوافق مع الرؤى العلمانية المتطرفة والداعية للانحلال التام، والتي عبّر عنها الملك الحسن الثاني في كتابه (ذاكرة ملك): «إذا كان المقصود بالحداثة القضاء على مفهوم الأسرة، وعلى روح الواجب إزاء الأسرة، والسماح بالمعاشرة الحرة بين الرجل والمرأة، والإباحية في طريقة اللباس مما يخدش مشاعر الناس، إذا كان هذا هو المقصود بالحداثة، فإني أفضل أن يعتبر المغرب بلداً يعيش في عهد القرون الوسطى، على ألا يكون حديثا»، وللأسف إن هذه اللوثات باتت واقعاً قائماً في كثير من البلاد العربية والإسلامية، ويسعى البعض لقوننتها، مما يخشى أن نصل إلى نفس الحال البائس الذي وصلت إليه المجتمعات الغربية على صعيد الدين والأخلاق والعلاقات الأسرية والاجتماعية!
وهذا التأثر السلبي بالأفكار المادية والفردية كانت له نتائج سلبية على المجتمعات العربية والإسلامية، حيث تفشت فيها ظواهر سيئة متعددة على غرار ما حدث في المجتمعات الغربية، فهناك حالة واسعة من العزوف عن الزواج بين الشباب والشابات، بعضها بسبب الفقر والبطالة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمغالاة في مصاريف الزواج من المهر والأثاث وحفلة الزواج في مخالفة صريحة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بتيسير أمور الزواج، حفاظاً على سلامة الأفراد والمجتمع، وقسم آخر من الشاب والشابات العازفين عن الزواج برغم قدرتهم المالية يكون الدافع لذلك هو تقبل الأفكار السلبية الوافدة عن مؤسسة الزواج، والجري وراء أوهام الحرية والانطلاق والانعتاق من القيود «البطريركية» لمؤسسة الزواج! ولذلك تصاعدت أعداد حالات الهروب واللجوء للغرب بدعوى الاضطهاد والتعنيف الأسري!.
ورافق توسع حالة العزوف عن الزواج ارتفاع نسبة العنوسة واستفحال ظاهرة التحرش الجنسي وارتفاع أعداد اللقطاء، وانفجار في نسب الطلاق في المجتمعات العربية والإسلامية، مما ينذر بحالة من التفكك الأسري والمجتمعي بعد مدة قد لا تكون بعيدة.
إن تجنب السقوط في الهاوية ممكن إذا قام الجميع -أفرادا ومسؤولين ومجتمعا- بمسؤوليته، فالاستقامة الدينية والفكرية والأخلاقية هي مسؤولية فردية وجماعية، ولا عذر لأحد إذا قصر الغير، والمصيبة إذا وقعت لا تستثني أحدا.
بداية: لا بد من وقفة مصارحة، إن مجتمعاتنا تسير نحو حتفها إن بقيت الأمور على حالها، وإذا كان الغرب يعالج كارثته بفتح باب الهجرة، فإن هذا لا يحل مشكلة المجتمعات العربية والإسلامية.
إن رفع مستوى وعي أبنائنا بخطورة مآل الفلسفات والأفكار الوافدة على حياتهم ومجتمعاتهم حجر الأساس في تدارك الكارثة، وإن الثقافة السليمة لإنشاء أسرة سعيدة يجب أن تعمم وتنشر وتفرض في التعليم الثانوي والجامعي وعلى المقبلين على الزواج، بدلا من المحاولات الجارية لفرض الثقافة الجنسية على طلبة المدارس تقليداً للغرب.
وإن قيام الدولة بمسؤوليتها تجاه تعديل المناهج التعليمية والإعلامية ومحاصرة الظواهر السلبية وتشجيع الاتجاهات الإيجابية لتكوين مناخ اجتماعي وأسري مُشرق وفرض عقوبات رادعة على من يعرقل حركة المجتمع نحو الأخلاق الفاضلة والسعادة الأسرية البناءة، لهو السياج الذي يحمي المجتمع من السقوط في الهاوية.
فهل نقوم -أفراداً وهيئات شعبية ورسمية- بواجبنا ونسعى بجد لحماية أنفسنا وأهلنا وأبنائنا وأحفادنا من تكرار مأساة الغرب وموته بموت الأخلاق وتفكك روابطه وموت أفراده وهم يجْرون خلف سراب المتعة واللذة المحرمة؟.