سعيد المقبالي- الامارات اليوم-
منذ الأزل تعلّم الإنسان كتمان بعض شؤونه عن الآخرين، ﻷنه ربط هذه الشؤون الخاصة بحريته وباستقلاليته، أما ذلك الإنسان المستعبد فإنه لم يعرف معنى الخصوصية، ولم يكن لديه شيء يخفيه عن الآخرين إلا دخوله الخلاء.
عندما يتنازل الإنسان عن خصوصياته ويعرضها للآخرين أو لا يهتم بستر عيوبه وأخطائه وأفعاله السيئة، ويجاهر بها أمام الناس بأي وسيلة، فإنه يقدم نفسه ضحية للاستعباد، ويتنازل طوعاً عن قيمته كإنسان حر.
وللأسف تنازل الكثير من الشباب والشابات عن حياتهم الخاصة، وكشفوا الأستار عن عيوبهم وتصرفاتهم السيئة طوعاً، وألقوا بأنفسهم في براثن الاستعباد في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت كـ«سوق النخاسة»، التي يزورها رواد يتقنون الاتجار بخصوصيات البشر واستغلال فضائحهم.
بعد غرق المجتمع في بحر إدمان وسائل التواصل الاجتماعي فإنه يواجه تحدياً اجتماعياً صعباً، يتمثل في أهمية وعي أفراده بالفرق بين حدود الحياة الخاصة والحياة العامة ومخاطر هتك أستار الخصوصية.
عندما ينشر الشباب أو الشابات مقاطع فيديو وصوراً تظهر جوانب من حياتهم الخاصة، وتبينها للملايين من رواد مواقع التواصل الاجتماعي ويتعرض الواحد منهم بسبب هذه المقاطع للهجوم من كل حدب وصوب وتشهير باسمه واسم عائلته، ويتفنن بعضهم في زيادة إحراجه بفضائح أخرى عنه فأي شخصية مستقلة ستبقى لهذا الشاب أو تلك الفتاة؟ وأي مفهوم للحرية سيبقى في ذهنه. وما هي السمات الشخصية لشباب ننتظر منهم بناء المستقبل؟!
جهل أفراد المجتمع بحدود الحرية الخاصة والحرية العامة مع امتلاك الجميع لتكنولوجيا الاتصال والتصوير الرقمي أنتج لنا أيضاً فئة أخرى من مختلف الثقافات، لا تتورع عن التعدي على خصوصيات الآخرين، فتلتقط بكاميرات هواتفها حديث الرجل مع زوجته أو جدالهما معاً، بل ولا يستحي البعض من تصوير عورات الآخرين، حتى المصابين والأموات في الحوادث المرورية، فيهتكون الأعراض ويدمون القلوب، ويشعلون المشكلات الاجتماعية في البيوت بتصرفاتهم وتعدياتهم وهم جلّ ما يفكرون فيه هو السبق في نشر هذه الحادثة أو تلك.
مجتمع الإمارات قادر على التصدي لهذا الانحراف السلوكي لدى هذه الفئة، وذلك من خلال القوانين الصارمة التي لا يتوانى القائمون على الأمن الاجتماعي في تطبيقها ضد من تسول له نفسه التعدي على حدود خصوصيات الآخرين وأعراضهم، والأجهزة الأمنية والقضائية تقوم بدورها في ذلك على أكمل وجه، ولكننا نحتاج إلى تكاتف وسائل الإعلام ومؤسسات الشؤون الاجتماعية وكل مؤسسات المجتمع المدني وأندية ومراكز الناشئة والشباب، لتقوم بدورها في توعية الأفراد بمفاهيم «الستر» و«الخصوصية» وحدود الحرية الخاصة للفرد، وحدود الحرية العامة لنحافظ على قوة الشخصية لدى بناة المستقبل، وفهمهم الصحيح لمعاني عزة الإنسان وكرامته.
ولتتكاتف المؤسسات الإعلامية مع مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الخطاب الديني لتوعية المجتمع لإحياء مفهوم الستر على الآخرين لدى الناس، إلا ما كان فيه تعدٍّ على أمن الأشخاص وأمن الوطن، فإن ذلك لا بد من الإبلاغ عنه من خلال القنوات الرسمية، ولن نجد منهجاً ونصاً قانونياً أفضل من قوله تعالى: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا». (148) سورة النساء.
وأخيراً..
الوقت يداهمنا، وكل يوم يزداد عدد الشباب والشابات الذين يهتكون خصوصياتهم وخصوصيات الآخرين بالنشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إننا نتعرض لخسارة جماعية لقيمة أساسية في شخصيات هؤلاء الشباب، إذا خسروها خسروا معنى الحرية، ولن يكون من الصعب استعبادهم لأي توجهات فكرية وأخلاقية منحرفة.