اكتشفت نزاهة أخيرا أن الواسطة أحد أسباب الفساد، وبتصريحها واعترافها بفساد الواسطة يعود الحديث للمربع الأول وللأزمة التي يعاني الناس منها منذ زمن طويل. واعترافها أن الواسطة من الفساد أمر في غاية الأهمية بالنسبة لمواطن مثلي يزعم أنه كتب عنها منذ ثلاثين عاما، وحاضر عن أضرارها ونشر كتابا بعنوان (النخبة بين ادعاء الوطنية وممارسة التحيز)، وكله من الغلاف إلى الغلاف عن الواسطة وما يترتب عليها من أضرار.
ومن المفارقة أنه لم يسطع فسح كتابه إلا بالواسطة ذاتها. حتى شك أنه على خطأ وأن الواسطة ليست كما يظن وإنما هي فزعة وبر بالأقربين وأخذ بالأثر: خيركم خيركم لأهله، القول الذي يحتج به الذين استوطنوا منازل الواسطة الواسعة، فقلل صاحبكم من غلوائه وخفف تنديده بما تجنيه الواسطة على الناس من أضرار.
ولكن نزاهة باعترافها حتى وإن كان متأخرا تعيد إليه الثقة بما كان يعتقد وبما كان يقول. ولا أظنه توجد قضية اجتماعية فشا فيها الحديث ونالت اهتمام كل فرد في الوطن مثل قضية الواسطة وكيفيتها، ومتى تكون ولمن تكون، فلا يصير لأحد حاجة في أي موقع وعند أي إنسان حتى يبدأ مرحلة البحث عن الواسطة، وصار طلبها والبحث عنها ضربا من الوسوسة والهلوسة في بعض الحالات، إن الفساد الذي أشارت إليه نزاهة في أمر الواسطة يتحقق حين يصبح كل ما يتعلق بمصالح الناس يحتاج إلى واسطة والبحث عن معرفة، وحين لا يقضي أحد حاجاته إلا تكون الواسطة متوفرة لديه، وتتوقف مصالح الناس عند أي مسؤول على قدر المعرفة والواسطة التي يقدمها صاحب الحاجة أمام حاجته، ويكون الفساد الحقيقي أكبر من كل فساد حين يطبق النظام في كل حذافيره على كل قضية لا تسبقها شفاعات الوسيط ويعفى منها من له واسطة أو معرفة.
وليس في أمر الواسطة كبير اجتهاد لنفيها أو لوجودها في كل الأحوال، الواسطة واقع لا يمكن إنكاره وتحتل مكانا بارزا في النسيج الاجتماعي، ومشكلاتها متعددة في الظروف الحالية التي تشح فيها فرص كثيرة أمام طالبي العمل من العاطلين الشباب خاصة والمتخرجين حديثا من الجامعات والمؤسسات التعليمية. هاجس الواسطة لا يفارق تفكير الناس وكل يبحث عن يد تنقذه من سطوة البيروقراطية ولا يجد ملاذا غير البحث عن صديق أو قريب يعرف صاحب القرار في الأمر الذي يريد إنجازه على أي حال.
الواسطة لم تعد فسادا كما وصفته هيئة نزاهة أخيرا، لكنها مرض مزمن ووباء يصعب استئصاله بسهولة، والأهم من ذلك يصعب تنظيف الذهن منه ومن تبعاته، ولا نختلف أن الدولة حاولت في أكثر من مناسبة سن القوانين التي تجرم هذا الفساد، كل الأنظمة واللوائح والتعليمات التي تصدر من الجهات العليا تحاول القضاء على عمل الواسطة بكل معانيها ومضامينها، وتحذر منها وتطلب من كل من يتعرض لشيء من العرقلة في مطالبه المشروعة الإبلاغ عن ما يواجه من تعقيد لما يستحق من إنجاز لعمله أو الاعتراض على حق من حقوقه.
لكن الواقع الاجتماعي والتربية العشائرية والبيروقراطية الضاربة أطنابها في كل مرفق من المرافق العامة التي تقوم برعاية مصالح الناس تجعل الحديث عن الفساد الذي تشير إليه نزاهة من المسلمات أو من المقبول العمل به والبحث عنه بكل وسيلة ممكنة.
والعودة للحديث عن الواسطة في هذا الوقت تعد من فضول القول حين تعرف نزاهة ويعرف كل إنسان أنه لا يمكن القفز على الواقع وتجاهل أنها ترسخت في مجالات شتى لا يمكن جمعها في موضوع واحد، وعندما تطلق كلمة الواسطة تتسع دائرة المعنى المراد بها، فأنت تحتاج الواسطة للبحث عن وظيفة وعمل، وتحتاج الواسطة لعلاج مريض، وتحتاجها لإنهاء معاملة طال بقاؤها في أدراج الموظفين الذين لا يعبؤون بأهمية الوقت الذي يقضيه المراجع في تتبع معاملته في أدراجهم، والمسؤولين الذين لا تنتهي اجتماعاتهم، بل وتحتاجها لتحسين وضعك المادي ولتنمية تجارتك وتطور أعمالك، وتحتاجها في أشياء لا أريد ذكرها وأنت تعرفها.
مرزوق بن تنباك- مكة السعودية-