تسبب مسلسل الكوارث في الحج منذ عشرات السنين، بأزمات سياسية وديبلوماسية بين السعودية ودول إسلامية تحمّل المملكة مسؤولية مقتل آلاف الحجاج، فيما كانت الصحافة الغربية تضج بها تحت عناوين ساخرة من فريضة الحج، إحدى الأركان الخمسة في الإسلام، كـ «مقتلة المسلمين» و «انتحار المسلمين في الحج» وغيرها. وفي ذكرى الكارثتين في منى والحرم، تجددت المطالب الإسلامية بوضع الحج وشؤونه تحت مظلة إسلامية ـ دولية، إذ دعا المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية السيد علي خامنئي العالم الإسلامي أمس الأول، إلى إيجاد حل لإدارة السعودية لمناسك الحج، بسبب ما وصفه بـ «السلوك الظالم حيال الحجاج»، وذلك بعد حرمان الإيرانيين وغيرهم، لاسباب سياسية، من الحج لهذا العام.
القلق السعودي من هذا المطلب القديم الذي يهدد عباءتها الإسلامية، دفع السعوديين إلى رد مزدوج من الجناحين السياسي والديني، وصل الى حد اخراج الإيرانيين من «دين الإسلام» كما يفهمه مفتي المملكة، رئيس «هيئة كبار العلماء»، عبد العزيز آل الشيخ، الذي لم «يكفّر» الإيرانيين فحسب، بل اعتبرهم أعداء الإسلام بقوله «يجب أن نفهم أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهم أبناء المجوس، وعداؤهم مع المسلمين أمرٌ قديم وتحديداً مع أهل السّنة والجماعة»!ّ
وفي ضوء هذا التصعيد في اللهجة، ردّ وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف بلهجة تفوقها صراحة على «تويتر»، قائلا بأنه «لا تماثل بين إسلام الإيرانيين ومعظم المسلمين من جهة، والتطرف والتعصب الذي يدعو له كبير علماء الوهابية وأسياد الإرهاب السعودي». أما ولي العهد محمد بن نايف، وزير الداخلية، فقد بادر إلى اتهام إيران بـ»تسييس شعائر الحجّ»، وهو اتهام طالما ألقته السعودية على كل من يعترض على إدارة المناسك.
قائمة الممنوعين من الحج تطول هذا العام في لائحة السعودية، تارةً بحجة منع دخول «إرهابيين» إلى السعودية أو لإحباط «مخطط شيطاني» أو لعدم «الاتفاق» على ترتيبات الحج تارة أخرى. مواطنو اليمن وسوريا وإيران، محرومون من أداء الفريضة، ربما لأن اليمنيين يتعرضون لحرب تقودها السعودية، ولأن السوريين يكتوون بنار الفتن التي يغذيها السلاح والمال والفتاوى، ولأن الإيرانيين طالبوا، بعدما فقدوا مئات الحجاج في منى العام الماضي، بضمانات تنظيمية وغيرها لمنع تكرار الكوارث الدموية.
اشتعلت حرب كلامية بين الرياض وطهران، وتبادلتا الاتهامات بـ «تسييس» الحج، بعدما «اختلقت» السعودية 11 بنداً جديداً في محضر اتفاقية الحج مع إيران، بحسب ما أعلن رئيس «منظمة الحج والزيارة» الإيرانية سعيد أوحدي. وتمنع القيود الجديدة إصدار تأشيرات من داخل إيران، أو استخدام الحجاج الإيرانيين لطائرات الشركات الإيرانية الداخلية، وبالتالي عليهم السفر من دولة ثالثة، فضلاً عن بنود أخرى اعتبرتها إيران «استفزازية»، كفرض قيود على عدد المراكز الطبية الإيرانية أثناء موسم الحج، وقيود على نقل الأدوية لاستهلاك الحجاج الإيرانيين وغيرها، في حين ركّز الوفد الإيراني في الرياض خلال الجلسات على توفير أمن الحجاج، خصوصاً بعد الكوارث التي رافقت موسم العام الماضي، والتي راح ضحيتها مئات عدة من الحجاج غالبيتهم من ايران، وبينهم أربعة ديبلوماسيين.
«الظروف غير متوفرة لكي يتوجه الإيرانيون إلى السعودية لأداء فريضة الحج هذا العام»، هذا ما أعلنه وزير الثقافة الإيراني علي جنتي في أيار الماضي، نتيجةً لأربع جلسات عقدتها رئاسة «منظمة الحج» الإيرانية مع وزارة الحج السعودية للاتفاق على ترتيبات الحج، بعدما قطعت المملكة مطلع العام الحالي، علاقتها بإيران إثر هجوم على البعثات الديبلوماسية السعودية في مشهد وطهران، استنكاراً لإعدام الشيخ نمر باقر النمر المطالب بالإصلاح. وهي ليست المرة الأولى التي يُحرم الإيرانيون فيها من الحج، فمنذ 30 عاماً، قُطعت العلاقات نحو 4 سنوات، إثر مقتل أكثر من 400 شخص في مكة المكرمة في اشتباكات بين حجاج وقوات الأمن السعودية في العام 1987، بسبب ترديد الحجاج الإيرانيين شعارات إسلامية وأخرى ضد العدو الإسرائيلي.
أما في اليمن، ها هو الموسم الثاني للحج يمر، من دون السماح لأبنائه بأداء فريضة الحج، في ظل تزايد معاناتهم من الحرب التي تقودها السعودية، وهو ما أكّده القائم بأعمال وزارة الأوقاف والإرشاد عبد الرحمن القلام قبل أيام في حديث مع صحيفة «الميثاق» اليمنية، بأن «السعودية تحرم اليمنيين للموسم الثاني، بعد أن ظلت طوال الأشهر الماضية تتهرب من الإيفاء بالتعهدات التي قطعتها على نفسها» والموقعة بين الجانبين في محضر رسمي في حزيران الماضي.
يوضح وكيل وزارة الأوقاف والإرشاد لقطاع الحج والعمرة اليمني عبد الله ناصر عامر أن اليمنيين يتعرضون إلى «الابتزاز» من قبل الحكومة الموالية للرياض، حيث يقوم عناصر حكومة هادي ببيع وشراء التأشيرات للحجاج وتركهم في العراء لأيام من دون مأوى عند منفذ الوديعة، بعد أن كانت الوزارة اليمنية قد اتفقت مع الجانب السعودي على تفويج الحجاج من منافذ الوديعة وعلب والطوال ومطارات صنعاء وعدن، إلا أنّ السعودية امتنعت عن تنفيذ الاتفاق وعملت على «تسخير العملاء» بحسب عامر، لتفويج الحجاج عن طريق معبر الوديعة فقط، والذي تسيطر عليه عناصر حكومة هادي.
وفي حين لا يتحمل منفذ الوديعة تفويح 16 ألف و300 حاج يمني المسجلين لدى قطاع الحج والعمرة، يبدو واضحاً أن السعودية تعرقل استقبال اليمنيين إلا عن طريق حكومة هادي، التي أكّدت في وقت سابق أنها لن تسمح لخصومها السياسيين المتمثلين بالحوثيين وأنصار الرئيس السابق علي عبد الله صالح بالحج هذا العام، وجاء ذلك، بشكل صريح على لسان وزير الأوقاف والإرشاد في حكومة هادي فؤاد عمر شيخ أبو بكر، في حديث لصحيفة «عكاظ» السعودية قبل أسبوعين، حيث أعلن أن وزارته استبعدت الحوثيين وحلفاءهم لمنع «مخطط شيطاني»، بعدما كشفت وزارته «محاولة ميليشيات الحوثيين والمخلوع صالح، تسييس فريضة الحج لهذا العام من خلال إدراج 47 شخصاً من أعوانهم كمنظمين» كما قال.
وفي ظل الصراع الدموي في سوريا، يواجه السوريون ما يعتبرونه استغلالا سياسيا من جانب السلطات السعودية للحج منذ أربعة أعوام، إذ رفضت المملكة إعطاء تأشيرات للسوريين الذين تقدموا بطلبات للحج عبر الحكومة السورية العام الماضي، ولم تجب وزارة الحج السعودية على رسائل وجهتها الخارجية السورية تطالب المملكة بالسماح لمواطنيها بالحج، وناشد مفتي محافظة حلب الشيخ محمود عكام حكام المملكة في أيلول العام الماضي، بأّن «لا يلعبوا بالدين لأجل السياسة وأن لا يكونوا من الذين يصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام»، وجدد اقتراحاً كان قد تقدم به في آب العام 2013، بتأسيس منظمة «الحرمين الشريفين الإسلامية العالمية»، لتتولى المسؤولية عن فريضة الحج حماية ورعاية وتنظيماً وتمّوَل من قبل المسلمين كافة.
«التسييس» السعودي في إعطاء التأشيرات، اشار اليه ايضا وزير الأوقاف السوري محمد عبد الستار في حديث مع وكالة «سبوتنيك» الروسية، مشيراً إلى أنّ القرار السعودي يسمح فقط للسوريين مِن خارج سوريا، أو من مناطق تخرج عن سيطرة الدولة السورية، حيث «تُمنح التأشيرات لهم عن طريق ممثلي الائتلاف السوري المعارض فقط»، وهي مفارقة، في العلاقات السياسية والدينية بين الدول.
وفي حين منعت السعودية دولاً من الحج، بحجة منع دخول «إرهابيين»، سمحت العام الماضي لـ 500 من خريجي «مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية» ممن «كانوا ينتمون إلى الفكر التكفيري وتنظيماته الإرهابية» في سوريا والعراق، بالحج، برفقة عائلاتهم وأعضاء هيئة التدريس الشرعيين، عبر برنامج مختصر بحسب صحيفة «الحياة» السعودية، وذلك بعدما «تم إقناعهم بالتوبة والعودة عن أفكار المغالاة»، لكن تجربة المناصحة لم يكتب لها النجاح بحسب مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، التي اعتبرت أنّ المركز «تحول إلى مركز لإعادة تأهيل الإرهابيين».
وعلى الرغم من أن السعودية تظهر خشيتها من تصعيد الحالة الطائفية في الحج، وتمنع الشعارات السياسية أو الطائفية أثناء المناسك، إلا أن مراقبين يتهمون إدارتها بالتغاضي عن مخالفات يقوم بها أعضاء الهيئة، حيث تمّ الترويج في الأعوام السابقة لكتيبات تحريضية في مكة أثناء الحج أمام أعين السلطة الدينية، تمثلت بتوزيع كتب مجانية تحريضية ضد المسلمين الشيعة بـ «تكفيرهم ومقاتلتهم قبل اليهود» (باللغة العربية والإنكليزية والتركية)، أبرزها كتاب حمل عنوان «الكافي في تحذير البشرية من دين الاثني عشرية، السرطان الشيعي واللوبي الرافضي»، ضمن سلسلة أطلق عليها «إعرف عدوك» لمؤلفها الداعية يعقوب بدر القطامي.
وتثير نشاطات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، بصفتها الجهة المسؤولة عن تطبيق «قوانين الشريعة الإسلامية» في الحج، انتقادات بسبب تشدد أعضائها في تعاطيهم مع الحجاج من المذاهب الإسلامية الأخرى، بمختلف وسائل العنف الكلامي والجسدي بحسب ما يقول مراقبون، نظراً للسلطات الواسعة التي تمنحها الحكومة للهيئة، تحت مسمى «تحذير الحجاج نحو الخير والصلاح من ممارسة البدع والمنكرات أثناء أدائهم مناسكهم» و»إعانة الحاج على إقامة عماد التوحيد والرد على جميع استفتاءاته وبيان الحكم الشرعي فيها» كما يقولون. ونشرت شهادات من حجاج في مواقع الكترونية عن تعرضهم للاستفزاز الطائفي في مكة من قبل أعضاء الهيئة، ووصف بعضهم موسم الحج بـ»موسم إصدار الفتاوى».
علي جواد الأمين- السفير اللبنانية-