إذا كنت من الذين يبحثون بين الناس عن خردة (عشرين ديناراً) في أول الشهر، ويبحثون بين الأدراج عن خردة (عشرين فلساً) في آخر الشهر، فأهلا بك في الطبقة الوسطى، حيث إنك بالتأكيد ستعجبك هذه القصة الغريبة والتي وجدتها في كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَنْ عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).
وفي هذه الحكاية يقول ابن خلدون (وفي هذه السنة وقع هرج ومرج عندما خرج الوزير علي بن عيسى المروزي معلناً أن الخراج هذه السنة ليس كالتي قبلها، وأن بيت المال لا يكفي رواتب الجند وعمال الأقاليم وشق قنوات الري، مما يستوجب على الناس أن يربطوا الأحجار على بطونهم، فصار الناس ما بين شامت ومتعجب ولاعن، ففريق قد دهش وأغلق بابه على نفسه يعد دراهمه التي حصل عليها وقت الرخاء ليصرفها وقت الشدة... وفريق كالطود العظيم ثارت ثائرته وتخبط في طرقات المدينة مخرجاً جيوب ثوبه ذات اليمين وذات الشمال معلنا إفلاسه، ومما زاد الطين بِلة والماء تعكراً أن أهل الحل والعقد لم يحلوا ولم يعقدوا شيئاً في مسألة مثل هذه مما أفسد قلوب الرعية عليهم، خصوصاً عندما علموا أن بعضهم يجتمع في ديوان شهبندر التجار ليأكلوا على مأدبته العامرة كل ما لذ وطاب من أبجاج العكارم وجوازل الطواويس وصدور الدجاج وبعار المعز وثؤاج الضأن، فاجتمع الناس في سوق المدينة وزقاق الحواري لمناقشة هذا الأمر الجلل والمصاب الوجل وتساءلوا بينهم عن الحل والعمل، فجاءهم من أقصى المدينة رجل جهير الكلام قد حياهم بتحية الإسلام، وكان على بغلة الوزير فاستبشر به القوم خيراً، فنزل عن بغلته وعندما تحلق القوم حوله قال (أيها الناس..اسمعوا وعوا، مشربش الشاي أشرب قازوزة أنا).. ثم رفع ثوبه حتى بدى للناس ما يكرهون ثم انصرف! فعاد الناس إلى بيوتهم يضربون كفاً بكف على ما وصلت إليه الأمور. وسمي هذا العام بعام الرفع).
في الواقع عزيزي القارئ أنت لا تحتاج أن تكون مثقفاً ومطلعاً لتكتشف أن هذه القصة مدسوسة على ابن خلدون البريء من ركاكتي اللغوية براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
كذلك أنت لا تحتاج أن تكون أديبا لتكتشف أنها تشبه واقعنا، وحكايات حارتنا، وأن فيها قوماً يشبهونك قد أصيبوا بخيبة أمل، ومتحدثين رسميين ووسائل إعلام مازالت تركب البغال والحمير في زمن ركوب الصواريخ لتحيرك بلغة لا تفهمها في أزمة ليست من صنعك، ورغم ذلك تتحمل أنت تبعاتها، رغم أن حبالك الصوتية قد بُحت وأنت تصرخ قائلاً من قبل (نوعوا مصادر الدخل).
كذلك أنت عزيزي القارئ لا تحتاج إلى أن تكون ناقداً صحافياً في مجال المقالات لتكتشف أن هذا المقال لن يقدم أو يؤخر أي شيء في حياتك، ولكن أقسم لك بالله أن الذنب ليس ذنبي في ظل حكومة تضع سماعات الأذن وتشغل خاصية (مانع الضوضاء) في وقت يصرخ فيه الجميع قائلين: «حريق».
ولكن هذا لن يمنعني من أن أكمل ثرثرتي لأتوجه في ما تبقى من المقال بحكاية للسادة المسؤولين حيث يُحكى عن مخرج سينمائي اسمه (لوتشينو فيسكوني) كان عندما يخرج مشهداً على الممثلين فيه أن يشيروا إلى صندوق مليء بالمجوهرات والذهب، فقد كان يضع صندوقاً فعلاً مليئاً بالمجوهرات والذهب في مكان التصوير من أجل أن يعيش الممثلون الدور كاملاً، لتخرج اللقطة متقنة في أدق تفاصيلها.
فنصيحتي لمَنْ يفترض فيهم أن يبلغونا بإجراءات التقشف، أن يكونوا متقشفين في أنفسهم وأرصدتهم حقاً... حتى يعيشوا الدور... ونصدق الفيلم.
محمد ناصر العطوان- الراي الكويتية-