خبر إحباط تسويق نحو مليون دجاجة منتهية الصلاحية في القصيم من خلال 25 شاحنة كان صادماً للمستهلكين، كيف أن القدر أنقذ نحو 5 ملايين شخص من تسمم غذائي وكارثة صحية كادت أن تحدث لولا لطف الله ويقظة ضمير الجهات الرقابية وسرعة تجاوبهم، وإلا لشهدت السعودية أكبر حال تسمم غذائي في العالم، وحال استنفار في المستشفيات. هذا العمل يرى بعضنا أنه انفلات رقابي أو جشع تجار، إلا أنه عمل إرهابي، سواء أحسنا الظن أم اعتبرناه سوء تخزين أو سوء تصرف، ومهما قيل من مبررات فهو عمل كان هدفه زعزعة الأمن الاقتصادي والاجتماعي. وليس بمستغرب أن نرى مثل هذه الحالات، فالاقتصاد السعودي 80 في المئة منه تحت سيطرة العمالة الوافدة، ومنهم من يكسب رزقه بعرق جبينه، ومنهم من يستغل التستر وغياب الرقابة وضعف الأنظمة والقوانين والتشريعات. أما النسبة المتبقية أغلبهم لا يقف على أنشطته التجارية بشكل مباشر، وأوكل مهمة الإدارة والمتابعة والإشراف لموظفين.. وهو فقط يجمع «الغلة» شهرياً وسنوياً ويمضي وقته متنقلاً في مطارات العالم.
بعد نشر خبر إتلاف كميات الدجاج الفاسد، توقعت أن جمعية منتجي الدجاج سيعقدون اجتماعاً عاجلاً، ولجان السلع الاستهلاكية في الغرف التجارية ستدعو كبار التجار إلى لقاء مهم، كما سيسارع رؤساء الغرف إلى طمأنة المستهلكين، ولكن للأسف حتى جمعية حماية المستهلك لم نسمع عنها أي رد فعل للموضوع، ووقفت الغرف التجارية الـ28 كالعادة ترى وتسمع هذه الأخبار وكأن الأمر لا يعنيها ولا يهم تجارها ولا صناعها. أكثر من مرة وجهت الجهات الحكومية صفعة قوية في وجه التاجر الجشع والغشاش، وتناولت بعض التصريحات «ألاعيب» التجار وأسلوب تحايلهم، ومع ذلك في كل مرة تكتشف أسلوباً جديداً وطريقة مبتكرة، تنتهي التحقيقات من دون معرفة التفاصيل. قبل أسبوعين فجر القنصل الكوري قنبلة من العيار الثقيل حينما قال في تصريح صحافي: «إن الوكلاء والمستوردين يبيعون المنتجات الكورية بثلاثة أضعاف سعرها في كوريا»، وقبل أربعة أعوام قال مسؤول صيني: «إن مستوردين عرب يشوهون صناعة الصين بالبضائع الرديئة»، حتى وسائل الإعلام تناولت هذا الخبر، وانتظرت حينها كيف سيتم تناول الموضوع في المؤتمرات أو المنتديات الاقتصادية، ومناقشة لماذا يلجأ التاجر السعودي إلى ممارسة الغش والتحايل، بدلاً من منح المتعاملين معه الثقة. فخلال عقدين ونصف كل الأخبار السلبية عن الأنشطة التجارية في السعودية جميعها تصب في الاحتيال وتمرير المعاملات من تحت الطاولة، ومهارة التاجر في كيفية خداع الجهات الرقابية، ابتداءً من استخدام لبس الشماغ للعاملين لديه في المحل لمنح انطباع بأنهم سعوديون، ومن ثم ظهرت طريقة تسجيل السعوديين في التأمينات من دون علمهم، حتى أن الكثير من الشبان والشابات فوجؤوا بأنهم مسجلون في سجلات التأمينات الاجتماعية، وفي توظيف الوافدين يتعامل معهم بعيداً تماماً عن عقود العمل، فإقامته قد يكون مكتوب فيها أنه خبير حاسب آلي، بينما تراه يعمل سكرتيراً أو بواباً، ولهذا اليوم معظم العاملين من الوافدين يعملون في وظائف غير تلك التي كتب في إقاماتهم، والحال نفسها تحدث مع العمال السعوديين.
بناء الثقة بين المؤسسة التجارية والمستهلك لا تأتي بسهولة، ويحتاج إلى أسلوب ممنهج، للأسف الشديد الشائع لدى الكثير من الشركات في الخارج عن التجار السعوديين أنهم «اتكاليون» وغير مهتمين في بناء علاقة واضحة، كما يعرف عن بعض الدول حينما تتحدث عنها في المجال التجاري يبادر ويقول لك إنهم صادقون أو مخلصون، أو يحذرك منهم بقوله انتبه منهم. للأسف الشديد هذا الانطباع عن الاقتصاد السعودي وما تبثه يومياً مصادر الأخبار وفي مقدمها وزارة التجارة وأمانات المدن والبلديات من حالات ضبط وقبض وملاحقة وإغلاق سينعكس سلباً على سمعة التاجر السعودي. سيقفز أحدهم ويقول لي إن هذه الحوادث تحدث في كل دول العالم، أقول له إن تحدث أحياناً فهذا شيء طبيعي، أما أن تكتشف كل يوم أو يومين أن الحالات نفسها تتكرر من مدينة إلى أخرى، فماذا يعني ذلك؟ إما أنه غير مكترث بالإجراءات التي ستتخذ ضده، أو أن هناك من يحميه! وحينما تنتهي المصلحة المشتركة ينكشف أمره.
أحدثكم عن مجموعة من الأخبار التي رصدتها في الصحف خلال أسابيع، وهي بالفعل مخجلة في جبين الاقتصاد السعودي: إغلاق خمس محال تجارية في الباحة، تشمل محال غذائية ومطعم ومطبخ ومستودعين، ومصادرة تسعة أطنان من اللحوم الفاسدة. في بلدية الجنوب، وإتلاف خمسة أطنان من الشوكلاتة والبسكويتات والحلويات غير الصالحة للاستهلاك الآدمي. وزارة التجارة تضبط شقة تعود لمحل بالرياض تحوي أكثر من 2400 سلعة كهربائية مغشوشة وشعارات أندية لتقليد الملابس الرياضية. من الأخبار التي اعتدنا أن نقرأها ولم يرتدع التجار حتى اليوم: إغلاق محطات وقود لخلطها المحروقات بالماء، أو أن العدادات غير مطابقة للمواصفات. من أحدث الأخبار ضبط مستودع في خميس مشيط يحوي كمية كبيرة من التمور الفاسدة وغير الصالحة للاستهلاك الآدمي. بالله عليكم، حينما يقرأ الناس على سبيل المثال في الدول الأوروبية، هل سيصدقون في منتجاتنا؟ أم سيقولون إذا كان التمر وهو منتج المسلمين يغشون فيه، فكيف سيتعاملون معنا في السلع والمنتجات الأخرى. وهكذا الطابور طويل من سلسلة أخلاق الاقتصاد السعودي، أنهم يشوهون صورته الجميلة ويساعدون في الحد من بناء ثقة بالأسواق العالمية، وبناء ثقة المستهلك سواء محلياً أم خارجياً هي ثقافة وعمل وجهد شاق لا يتم بهذه السرعة. فالاقتصاد السعودي الذي تنخره المحسوبية والمحاباة وعدم ممارسته بشكل صحيح، وهي جزء من أخلاقيات النفط التي ولّدت لدينا عدم الاهتمام بأخلاقيات التعامل، حتى تضخمت سوق الغش لدينا ليصل إلى أكثر من 100 بليون ريال في مجالات مختلفة وهو ينعكس سلباً. فما هو الحل؟ هل نقف هكذا نتفرج، أم تتحرك مبادرات وتشرع قوانين صارمة جداً؟ فالتاجر الناجح يهمه أن يبني سمعته في السوق قبل أن يبحث عن الربح.
جمال بنون - الحياة السعودية-