لم تكن تظاهرات مواطنين بريطانيين تعود أصولهم الى "أرض الصومال" (صوماليلاند) أمام السفارة الإماراتية لدى المملكة المتحدة في الثاني من آذار/ مارس الحالي، تحركاً اعتباطياً أو عفوياً تجاه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التي يقودها حزب "كولميه"، والساعية الى منح دولة الإمارات العربية المتحدة قاعدة عسكرية جوية في مدينة بربرة، عاصمة محافظة ساحل، والميناء التجاري الرئيسي للبلاد المطلة على خليج عدن، مقابل سواحل اليمن الذي يشهد حرباً دامية اختلط فيها الصراع المحلي بالإقليمي، والمذهبي بالسياسي، والتنافس بالتعاون.
جاء ذلك التحرك الشعبي نتيجة قناعة عامة يجاهر بها الكثير من المواطنين، في حين يتردد آخرونفي الإعلان عن موقفهم منها ــ خاصة في الداخل ــ مخافة الملاحقة والاعتقال، أو مراعاة لمصالح أقرباء منتمون للحلقة الضيقة المستفيدة من تأجير مرافق شديدة الحساسية وإطلاق يد قوات عسكرية أجنبية ضمن إحدى أكثر مدن البلد حيوية، في صفقة أقل ما يمكن وصفها به هو أنها "مشبوهة"، وعلى مستوى كبير من الخطورة والتأثير على مستقبل شعب صوماليلاند.
ضرب النواب واعتقال المواطنين
لم تمر تسعة أشهر على حملة الاعتقالات التي استمرت ربيع وصيف العام 2016 ضد المثقفين والناشطين السياسيين الذي عبّروا عن احتجاجهم على صفقة ميناء بربرة، والتي كان طرفاها حكومة حزب "كولميه" و"موانئ دبي العالمية"، حتى ظهرت صحة التسريبات التي أشار إليها المحتجون على الصفقة الأولى، حول وجود نية مُبيّتة لإقامة قاعدة عسكرية إماراتية والسماح بتواجد عسكري إثيوبي في المدينة ذاتها، على الرغم من النفي الذي أصر عليه أساطين حزب "كولميه"، وتأكيدهم على تكذيب تلك "الشائعات"!
عدد من نواب البرلمان احتجوا على المسرحية السياسية – السمجة - التي تمّ عبرها تمرير إقرار البرلمان، بمجلسيه "النواب" و"الشيوخ"، للصفقة. فقد قدم لهم "منشور" لا يمت لصيغة الاتفاقية بصلة، ولا يتجاوز كونه ملخصاً لفحوى الاتفاقية أو فكرة عامة عنها، وانعقاد جلسة التصويت بعد ضرب عدد من النواب، وطردهم من قاعة مجلس النواب عبر سحلهم من قبل قوات دخيلة على الحرم البرلماني، وانسحاب رئيس مجلس النواب، واحتجازه في إحدى مكاتب مبنى البرلمان لحين اكتمال الملهاة البرلمانية!
تصويت فاسد ونكوص عن الديمقراطية
رئيس مجلس النواب، عبد الرحمن عرو، قائد حزب "وطني"، عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه تبرؤه من المهزلة التي حدثت في المجلس الذي يترأسه، معتبراً ما حدث "اختطافاً" للبرلمان وباعثاً لتقديم العزاء لشعب صوماليلاند على ديمقراطيته المهدورة.
مباشرة بعد تصريح رئيس مجلس النواب "المغلوب على أمره"، صرّح وزير الخارجية د. سعد علي شِره، بأن ما تم طرحه كان تصوّراً عن الشكل العام للاتفاقية، في دعوة "ودية" من رئيس الدولة لغرفتي البرلمان لمجرد الاطّلاع، وهو ما لم يكن يسترعي تصويتاً من أساسه، مؤكداً بأنه لا اتفاقية تمّ توقيعها، وأن المحادثات لا زالت جارية.
ومن الملفت أن الوزير ذاته دعا لاحترام حقوق المواطنين في التعبير عن وجهة نظرهم بالطرق السلمية وضمن القانون، مظهراً بذلك معارضة ضمنية لمجريات الأمور التي تكشف كمّ الفوضى المختلقة من قبل أطراف مقربة عائلياً من الرئيس، لتتمكن من تمرير صفقة لا تحمل أي شكل من أشكال احترام الدستور أو القوانين الوطنية أو الدولية.
وبرزت اتهامات لمن يديرون هذا الأمر بالمخالفة الصريحة للدستور، لمجرد إقحام مجلس الشيوخ في مسألة ليست من اختصاصه للتصويت فيها، بهدف تقليل احتمالات رفض التصويت، أو عدم تحقق الأغلبية العددية في هذا التصويت غير الشرعي!
مخاوف من الفساد وقلق من الحرب
يفتخر أبناء "أرض الصومال" بالسلام الذي حققوه، وبكفاءة القادة التقليديين والسياسيين الذين ضمنوا هذا السلم الأهلي، وبتحوّله من مجرد مصالحات وتسويات إلى دولة ذات منظومة سياسية وإدارية مستقرة ومستقلة.
إلّا أن ما تعيشه صوماليلاند اليوم من تفكك لمؤسسات الدولة، بسبب لتركز السلطة في يد حلقة ضيقة محيطة برئيس تتكرر الشائعات حول سوء حالته الصحية، خاصة مع استمرار المجلس النيابي الموروث من فترة الرئيس السابق وتقادم العهد بمجلس الشيوخ الذي توفي معظم أعضائه وحل محلهم ورثتهم ـ زوجاتهم وأبناؤهم ـ ولم يبق سوى عشرة من الشيوخ، خمسة منهم أقعدهم الهرم والمرض..
كل هذا أدى إلى حالة من تفشي الفساد غير مسبوقة، تؤكدها تقارير تتحدث عن تبدد خُمس الدخل القومي كتكلفة لممارسات الفساد الممنهج والمتمدد في كل مجالات الحكم والسياسة والإدارة، مما يجعل المواطنين في صوماليلاند يتعايشون مع حالة من عدم اليقين، وشعور طاغ بعدم الثقة والخوف من المستقبل المجهول.
وحتى يزداد شعور أبناء صوماليلاند بالقلق، خرج مسؤول رفيع المستوى ("وزير شؤون الرئاسة") في خطاب شعبوي خاو، متحدثاً للمرة الأولى في تاريخ البلاد عن أن صوماليلاند بلد سني، وأنه من واجب أبنائه دعم إخوتهم العرب السنة ضد القوى الشيعية الشريرة التي تريد ابتلاعهم!
وهو ما أثار موجة عارمة من السخرية شعبياً، إلّا أنّه أوصل رسالة مفادها أن السلطة في "هرغيسا" تسعى لإدخال هذا البلد في حرب بينما لا زال أبناؤه يكتشفون المزيد من المقابر الجماعية في بقاع كثيرة من أرضهم. وهم يعلمون من تجارب السنين أنهم وحدهم من سيدفعون ثمن الحرب، وأنهم وحدهم من سيتعاملون مع خسائرها وجراحاتها، وأنهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل!
محمود عبدي- السفير العربي-