سطام المقرن- الوطن السعودية-
التجسس يصنع بيئة إدارية مترهلة، ويؤدي إلى الكراهية والتصادم بين الموظفين ويتيح فرص الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات، وينقل صورة غالباً ما تكون خاطئة لتحقيق مصالح شخصية المتأمل في الحياة العملية داخل أورقة الوزارات والمصالح الحكومية سيجد أن هناك أشكالاً وممارسات عديدة للتجسس على الموظفين بشكل يومي خلال ساعات الدوام الرسمي، وهذه الممارسات تتمثل في مراقبة ومتابعة تحركات الموظفين ورصد ما يتم تناقله من معلومات وأخبار وآراء عن الإدارة، أو التجسس عليهم من خلال الدخول على أجهزة الحاسب الآلي الخاصة بهم وعلى حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وتحري ملفاتهم ورسائلهم البريدية الإلكترونية!
ولا أبالغ إن قلت إن بعض الجهات الحكومية قامت بتركيب كاميرات مراقبة في كل مكان تقريباً، والهدف من ذلك ليس أسبابا أمنية، وإنما لرصد حركات وتنقلات الموظفين.. أين يذهبون؟ ومع من يتحدثون؟ وماذا يأكلون؟ وعلى هذا الأساس يقضي الرئيس أو المدير الإداري جلّ وقته خلال الدوام الرسمي في مقابلة شاشة المراقبة يرصد ويتابع ويراقب! بالإضافة إلى تلقي التقارير السرية والدورية سواء كانت شفهية أو مكتوبة، وذلك عن طريق موظفين آخرين يملكون مهارات الاندساس بين الموظفين ومتابعة تحركاتهم وكتابة التقارير الدورية والاستثنائية للإدارة الموقرة!
هؤلاء الجواسيس في الغالب قد يشغلون مناصب إدارية عالية، كمشرف أو مدير عام أو حتى مستوى وكيل وزارة، ويعتبرون من الفئة المتسلقة على السلالم الوظيفية، والتي تنتهز أي فرصة للتسلق إلى مراتب أو مناصب وظيفية أعلى، بصرف النظر عن المؤهل أو الكفاءة أو الخبرة، وبصرف النظر عن جودة الإنتاجية وحسن الأداء أو سوئه، وهؤلاء رغم مناصبهم الرئاسية والإشرافية لا يهمهم الانضباط وجودة العمل وتحقيق النتائج والإنجاز، ولا يهمهم تحقيق الأهداف العامة لجهة عملهم، وإنما همهم الوحيد تحقيق الأهداف الخاصة والمصالح الشخصية.
قد يتظاهر هؤلاء المتسلقون والجواسيس بالاهتمام والانضباط في العمل، ومن ذلك على سبيل المثال الاهتمام الشديد بتركيب كاميرات المراقبة، وتركيب أنظمة البصمة الإلكترونية من أجل ضبط الحضور والانصراف، والدخول على شبكة الحاسب الآلي والبرامج بحجة تقويم السلوك الأخلاقي للموظفين، وهم في كل الأحيان يغلبون المصلحة الخاصة على كل ذلك وينصرف تفكيرهم وجهدهم ووقتهم إلى استطلاع الطرق والوسائل للوصول إلى أهدافهم الخاصة ومصلحتهم الشخصية.
بالإضافة إلى ما سبق، يقدم المتسلقون والجواسيس خدمات جليلة إلى الرئيس الإداري الأعلى منهم في المنصب، تتمثل في اطلاعه على كل ما يدور في الإدارات والأقسام في الوزارة أو الدائرة الحكومية، ويكون هؤلاء قادرين على أداء هذه الخدمات بكفاءة وفاعلية عن طريق مجالس الموظفين والاستئناس بحديثهم، والتظاهر بالاستماع والانصات إلى همومهم وآرائهم وما يفضون إليهم أحيانا بمشاكل العمل وآرائهم حول القرارات الإدارية، وفي نفس الوقت يستغل هؤلاء المعلومات المتاحة لهم من قبل الرئيس الإداري، في إطلاع الشركات أو المستفيدين منها بشكل أو بآخر للتربح غير المشروع من الوظيفة.
وللأسف فإن من أهم الأسباب البيئية المحفزة لظهور الجواسيس وفئة المتسلقين في الإدارة الحكومية ميل بعض الرؤساء الإداريين أو المديرين إلى حب الظهور والتباهي وإشارة البنان إليهم بصورة مبالغ فيها، بالإضافة إلى ميلهم إلى سيادة الرأي الأوحد وعدم الاعتراض على قراراتهم الإدارية حتى وإن كانت مخالفة للمنطق ومخالفة للأنظمة واللوائح، ناهيك عن سمات الشخصية النرجسية وحب الذات.
ونتيجة لوجود تلك السمات الإدارية السلبية الموجودة في بعض الرؤساء تنشأ بيئة إدارية غير سليمة تمتاز بضعف الأداء والإنتاجية، وتركيز المديرين على المظاهر والإشادة بهم، وضمان السمع والطاعة العمياء من قبل الموظفين أكثر من رفع مستوى الأداء والإنتاجية، كما تظهر أيضاً التفرقة الظالمة بين الموظفين في تقارير تقويم الأداء الوظيفي والتي لا تستند إلى معايير موضوعية وعلمية وإنما إلى الكلام والمعلومات المنقولة إليهم من قبل الجواسيس، ما يدفع الموظفين إلى التمسك بأخلاق النفاق والكذب والإطاحة بزملاء المهنة.
وليس هذا وحسب، بل تنتشر الإشاعات الكاذبة والأقوال غير الحقيقية التي لا ترتبط بالأعمال والإنتاجية، وبالتالي الوقوع في مشاكل إدارية معقدة، واتخاذ قرارات غير صائبة، سببها الاعتماد على الادعاءات والمزاعم الباطلة ونقل الكلام والنميمة، ما يؤدي ذلك إلى زيادة فرص ترك الوظائف وتسرّب الموظفين الأكفاء والمؤهلين نتيجة لسوء الحالة النفسية وانخفاض المعنويات وانعدام الثقة في الرئاسة الإدارية. وهذه هي العلة الرئيسة التي تقف وراء انخفاض العطاء وقلة الإنتاجية في الجهات الحكومية، وتسرب المجدين والمؤهلين من غير المتسلقين والجواسيس في مكاتبها، وهي إشكالية قد تفرض على قطاع أكبر من الموظفين الحكوميين أن يتعلموا قواعد النفاق والتجسس وأن يكتسبوا المهارات اللازمة لذلك.
التجسس يصنع بيئة إدارية مريضة ومترهلة، ويؤدي إلى الكراهية والتصادم بين الموظفين ويتيح فرص الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات القديمة بينهم، ونقل صورة غالباً ما تكون خاطئة وملفقة لتحقيق مصالح شخصية بحتة، والإدارة التي تتبع أسلوب التجسس هي في الحقيقة إدارة ضعيفة وجبانة فشلت في الأساس في تحقيق الأهداف العامة وعجزت عن القيام بدورها كما يجب، لذا فهي تلجأ إلى تغطية هذا الفشل من خلال الرقابة الشخصية اللصيقة على الموظفين وتصيد أخطائهم حتى تلقي بمسؤولية الفشل عليهم.
الإدارة مسؤولية وتكليف، وهي مسؤولة عن تحقيق النتائج التي وجدت من أجلها الجهة الحكومية، وليس لها أهمية في ذاتها، وإنما أهميتها مستمدة من النتائج التي من المفترض أن تحققها الجهة التي وجدت في المجتمع، ومهمة الإدارة تتلخص في تقرير النتائج المطلوب تحقيقها، واستخدام الموارد المادية والبشرية في سبيل ذلك.
وبالتالي فإن الرقابة لا تكون على الموظفين والتجسس عليهم وعلى سلوكياتهم وتصرفاتهم الشخصية، وإنما تكون بالتركيز على الأهداف والنتائج، ومن ثم محاسبة الموظفين على تحقيقها، يقول الله عزّ وجل: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) الحجرات الآية 12.