علي مراد- الاخبار اللبنانية-
سريعة ومتسارعة مرّت أيام العام الأول من حكم سلمان. لعل أبرز من أحسّ بسرعتها شعب الحجاز الذي اعتاد الرتابة في وتيرة الأحداث وإصدار المراسيم الملكية
خلال عهود الملوك السابقين
أصرّ سلمان بن عبد العزيز على مفاجأة رعيته منذ اليوم الأول لتوليه الحكم، بإصداره قراراً ملكياً بالإبقاء على مقرن ولياً للعهد وتعيين محمد بن نايف ولياً لولي العهد، مع تعيين نجله محمد ــ ذي الـ29 عاماً ــ وزيراً للدفاع ورئيساً للديوان الملكي ومستشاراً خاصاً للملك، وتسريح الحرس القديم لأخيه عبدالله من الديوان الملكي.
خطوة شكلت المفاجأة الأولى التي أتى وقعها ثقيلاً على متعب بن عبدالله (وزير الحرس الوطني الذي كان يمنّي النفس بوراثة أبيه)، إضافة إلى الامتعاض الواضح لدى أبناء عبد العزيز، وأبرزهم طلال وأحمد اللذين عبّرا صراحة عن رفضهما مرسوم سلمان، كونهما يريان أنهما الأحق بولاية العهد وولاية ولاية العهد.
وبعد أسبوع على توليه الحكم، اتخذ سلمان 34 أمراً ملكياً، أبرزها ترؤّس ابنه محمد مجلساً جديداً سمّاه «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية»، الذي سيصنع السياسة الاقتصادية للمملكة، واستبدال كل من مدير الاستخبارات ورئيس مجلس الأمن القومي، وتعيين وزراء جدد وإلغاء أكثر من 12 مجلساً وجهازاً في الدولة، إلى جانب إعفاء أميرَي منطقتي الرياض ومكة ــ ابنا الملك الراحل عبدالله ــ من منصبيهما. كل ما سلف من قرارات كان يشي بأنه على خطى سلفه يسعى إلى إحداث تغييرات لها علاقة بالتنمية والإصلاحات الإدارية في بنية الدولة؛ إلى أن حلّت ليلة السادس والعشرين من آذار الماضي، وخرج سفير سلمان في واشنطن ــ الذي كوفئ في ما بعد بتعيينه وزيراً للخارجية ــ عادل الجبير ليعلن إطلاق «عاصفة الحزم»، العدوان على اليمن المستمر حتى اليوم.
منذ تلك الليلة، اقترن اسم سلمان بكلمة «الحزم» في منابر إعلام «آل سعود» وتصريحات التابعين والمتملقين. عاد سلمان ليفاجئ شعبه أيضاً بعد منتصف الليل في 29 نيسان، بإصداره قراراً ملكياً «بقبول استقالة» مقرن وتعيين محمد بن نايف ولياً للعهد، واستقدام ابنه محمد إلى منصب ولي ولي العهد، الذي صار بعد أيام رئيساً للمجلس الأعلى لشركة «أرامكو». وأخذ محمد يصرف من ميزانية الدولة مبالغ طائلة لشراء الأسلحة في سبيل تلبية الاستهلاك في حربه على اليمن، ولحسابه الخاص كما يتهمه المغرد «مجتهد» وبعض الأمراء في تصريحات لصحف عالمية. لكن ابن سلمان لم ينس أن يوهم الشعب بأنه في صدد نقله من مرحلة إلى أخرى سيكون عنوانها الرخاء، أو «الاستخراء» كما يدأب والده على لفظها، فأعلن تبنّيه برنامجاً سمّاه «برنامج التحول الوطني»، لم تُعرَف حتى اليوم تفاصيله الكاملة.
«العام السلماني» كان قد بدأ بعد ثلاثة أشهر على إغراق الرياض سوق النفط، بدعم أميركي واضح، وذلك لإلحاق الخسائر الاقتصادية بكل من إيران وروسيا.
استمر انخفاض سعر برميل النفط منذ تشرين الأول 2014 حتى اليوم. لم ينتبه سلمان، وابنه الذي تولى رئاسة المجلس الأعلى لإدارة «أرامكو»، إلى الأثر السلبي لاستمرار انخفاض أسعار النفط على الاقتصاد السعودي. قبيل انتهاء عام 2015 ببضعة أيام، عاد سلمان ليفاجئ رعيّته مجدداً كما دأب، ولكن من موقع الناعي غير المزهو هذه المرة، بادئاً حديثه في جلسة مجلس الوزراء المخصصة لإعلان أرقام الموازنة العامة لعام 2016، متحجّجا بانخفاض أسعار النفط والمشكلات الإقليمية.
أُعلنت أرقام موازنة السنة الجديدة بعجز تم تقديره بـ98 مليار دولار، في حين أنه مع نهاية 2014 ووفاة الملك عبدالله في الشهر الأول من 2015، قدرت وكالات أنباء عالمية وخبراء اقتصاديون قيمة الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى مؤسسة «النقد العربي السعودي» بنحو 740 مليار دولار، مسجّلاً أواخر عام 2015 انخفاضاً بنسبة 14% ليصل إلى 635 مليار دولار، أي إن ما يقارب خمس الاحتياطي النقدي للسعودية أحرقه سلمان خلال عام واحد من حكمه!
المهم أنه أعلن اتخاذ إجراءات تقشفية قاسية مقرونة بفرض ضرائب على الوقود والمياه والصرف الصحي والكهرباء، ما أثار صدمة ونقمة القواعد الشعبية، خاصة تلك الحاضنة التاريخية في نجد، التي دوماً استفادت من سخاء ولي الأمر الساهر على راحتها ورفاهيتها واستمرارية انتفاعها الاقتصادي، مقابل الولاء المطلق للعرش غير القابل للاهتزاز. إعلان محمد بن سلمان نية الحكومة السعودية طرح جزء من أسهم «أرامكو» للاكتتاب كان مفاجأة أخرى لكل من اعتقد بثابتة المتانة الراسخة لإمبراطورية «أرامكو»، وهي دوماً تغنّت بها الأسرة المالكة والمسبّحون بحمد ريالاتها.
بالتزامن مع إعلان عجز الموازنة العامة ومشهد تهافت السعوديين على محطات الوقود لملء خزانات بنزين سياراتهم، شرعت أذرع النظام من المطبّلين (1) والمباحث في ضخّ رسائل الدعم والمؤازرة للملك ولحكومته في قراراتهم، وقد تجلّت أبرز أوجه هذه الحملات عبر «تويتر»، إضافة إلى الإعلام المرئي والمكتوب. لم تكن الحملات كافية لرفع منسوب التطمينات والمعنويات لدى الرعية التي خافت الدخول في المجهول، فأخرج العقل الأمني للنظام، محمد بن نايف، في الثاني من كانون الثاني الماضي، ورقة الإعدامات التي خلط فيها إرهابيي «القاعدة» والشهيد الشيخ نمر النمر. اشتعل الغضب في إيران وأُحرقت السفارة السعودية، فاستنفرت الرياض إعلامياً ودبلوماسياً وحلت موجة الشحن والتحريض المذهبي القديمة الجديدة التي أعادت شحن بطاريات الولاء في الحاضنة الشعبية للنظام. شحن كان أشعل نيرانه تنظيم «داعش» عبر تفجيره مساجد الأقليات في المنطقة الشرقية وعسير في شهري أيار وآب الماضيين، لتظهر بوادر فرح وتشفّ بين الطبقة الوهابية ومشايخها بالغزوات الداعشية في المنطقة الشرقية على وجه الخصوص، ثم استكملت العملية بمهاجمة الجهود الشعبية لأهالي الشرقية لحماية مساجدهم، في ظل التقاعس المتعمّد لأمن ابن نايف.
بالتزامن مع العاصفة التي لفّت الإقليم بعد إعدام الشيخ النمر، كانت تدور أحداث في قلب وادي الدواسر الواقع إلى الجنوب من مدينة الرياض، حيث إحدى القواعد الشعبية النجدية الحاضنة والموالية لنظام الحكم. لكن ديوان سلمان الملكي حرص على طمسها وتطويق ذيولها كي لا تتفاقم وتصل الإعلام. اختار الأمير سلطان بن محمد بن سعود (الكبير) نقل مصنع الإسمنت الذي يملكه من أحد أحياء الرياض إلى أرض نائية في وادي الدواسر تسمى «العرمة»، تمتلكها إحدى قبائل الدواسر وتدعى «قبيلة الغييثات». شرع الأمير في نصب معدات الإنشاء في الأرض المذكورة، فانتفض أبناء القبيلة معلنين «الفزعة» (2) وحضروا إلى أرضهم ببنادق «كلاشنيكوف» معلنين تحدّيهم سلطان ومن يقف وراءه، كما جاء في تسجيلات الفيديو على «يوتيوب». استمر التجاذب وتهديد أبناء القبيلة حتى الأسبوع الأول من الشهر الجاري، ليستدرك البلاط الملكي ذيول الواقعة، ويأمر أمير الرياض فيصل بن بندر بن عبد العزيز بإصدار ما يسمّونه «الصك الشرعي» الذي يثبت ملكية الأرض للقبيلة الدوسرية (3)، فعاد سلطان مهزوماً ممتثلاً لـ«إرادة الملك» على وقع النشوة القبلية بالانتصار!
هذه الواقعة، مع أن سلمان ووكيله في إمارة الرياض تمكنا من احتوائها، تمثل نموذجاً مصغّراً عن الحالة التي قد تصل بالحاضنة الشعبية النجدية للتمرد على الأسرة المالكة عندما تتفاقم الأزمة الاقتصادية أكثر مع مرور الوقت، ويتغوّل فيها أمراء العائلة الحاكمة على أملاك ومصالح القبائل اللصيقة بدوائر الحكم، آخذين بعين الاعتبار أن القبائل النجدية أو الشمالية والجنوبية منها، هي قبائل مسلوبة الإرادة السياسية الحرة ومحكومة بالولاء المطلق للملك وأركان حكمه، ولكنها منتفعة اقتصادياً ومادياً مقابل الولاء السياسي؛ فماذا سيكون موقفها من الحكم إذا فقدت هذه المنفعة أيضاً؟
هذا سؤال برسم ما تبقى من حكم سلمان وابنه، الذي من المؤكد أنه سيواجه مشكلة اضطراره إلى كفّ يد العطاء والإغداق على المنتفعين والنافذين في منظومة الولاءات المطلقة، من دون إغفال المؤسسة الدينية التي ستجد نفسها عاجزة في مساعيها، بل لن تكون مؤثرة في استمرارها في عملية بث الدعاية وتلميع صورة ولي الأمر المتآكلة.