تفلس المجتمعات والشعوب حين تختل البنى والهياكل الاجتماعية لا حين يتباطأ الاقتصاد أو يدخل مرحلة الكساد وتتراجع نسب النمو. أولى مؤشرات الإفلاس المجتمعي تكمن في معيار التعليم لا في قيمة العملة. قبل نصف قرن من الزمن كانت دولة مثل سنغافورة مجرد جزيرة مهملة في منتصف أرخبيل الملايو، وحتى اللحظة، ما زالت القاعة الأولى في مدخل متحفها الوطني محصورة مغلقة على آلاف الصور التي تعرض جزيرة صغيرة كانت من القش وأكوام الصفيح ومساكن التنك. وحين قررت سنغافورة أن تنهض لتقارع نمور آسيا المفترسة لم تبدأ على الإطلاق بإقامة مصنع مستورد من "الصامولة" الأولى حتى مهندس التشغيل الوافد، قررت فقط صرف ثلثي مواردها على إقامة نظام تعليم حديث، واشترطت تخصيص نصف هذين الثلثين من ميزانية التعليم على مادتي العلوم والرياضيات وحدهما، وحزمت أمرها بأن يستمر هذا القرار لعقدين كاملين من الزمن. واليوم تتربع سنغافورة على قائمة أفضل نظام تعليمي في الكون، وتقتحم جامعتها الوطنية قائمة العشرين في مؤشر "التايمز"، وخذ للمفاجأة، لا تصرف سنغافورة من ميزانيتها على التعليم اليوم سوى أقل من 9 %. إنه بناء القواعد وترتيب الأولويات. يأتي بعدها في الترتيب دولة صغيرة أخرى اسمها فنلندا التي تحتل ثاني أفضل نظام تعليمي، وخذ من أمثلة شجاعة القرار أنها اكتشفت أن الطالب لا يحتاج إلا لثلاث ساعات يومية في المدرسة كأقصر يوم دراسي لطالب على وجه الأرض. فعلت هذا لأنها اكتشفت كذبة الزواج القسري داخل أسوار المدارس ما بين ثنائية التعليم والتربية. المدرسة مسؤولة بالاختصاص عن جودة التعليم، لكنها عاشر مكان يمكن له أن يتصدى لمهمة التربية. وعلى المعاكس النقيض، اكتشفت دولة مثل فنلندا أن المدرسة هي المكان الأخطر على الأطفال والشباب لالتقاط وممارسة أسوأ الأمراض في المخدرات والشذوذ وانحطاط القاموس اللغوي، وكل ما يمكن له الاصطفاف من بقية الجنح والأخطاء. وكل هذه الكوارث تحدث مع اليوم المدرسي الطويل ومع الفراغ في الوقت داخل جدران المدرسة.
المدرسة وبالبرهان لا يمكن لها تعليم القيم ولا تلقين الطلاب بقية الوظائف الاجتماعية الموجبة في حياة أبنائنا، وهي بالكاد تحاول مكافحة وتشذيب وتهذيب ما تراه وتلمسه وتشاهده من الأخطاء الصغرى والكبرى التي لا تحدث إلا مع الاحتكاك الشبابي داخل المدرسة. نحن كآباء لا نخاف على صغارنا من شيء كما نخاف على سلوكهم الذي يأتون به من المدرسة، وكل البراهين لدينا تقول إن الخطأ الفادح الأول في حياة أي شاب من أبنائنا جاء من المدرسة بالتحديد، وهنا أبدا يجب ألا نلقي باللوم على المعلم أو على الطاقم التعليمي، فهذه ليست في الأصل مهمته ولا حدود ما أرسلناه من أجله. نحن أرسلناه للمدرسة من أجل مهمة التعليم، ومن الكذبة الكبرى بمكان أن نتوقع من المعلم تربية ثلاثين طالبا في فصل دراسي أو أن نتعشم من مدير المدرسة تربية 300 طالب في مدرسة. كل المقررات والمناهج التي تحوم بغباء حول مفاهيم التربية في مدارسنا مجرد استغفال وعبث. التعليم هو الرياضيات والعلوم، وأي مناورة حول هذه الحقائق مجرد حديث للإفلاس الذي جعلنا في ذيل الأمم مع كل مؤشر وتصنيف في التعليم أو حتى في غيره.
علي سعد الموسى- الوطن السعودية-