صالح البدر- خاص راصد الخليج-
لم تكن المملكة على حال أسوأ من التي هي عليها الآن، وإذا كان العام 2015 عام خروجها من عقود مارست فيها الدور الخفي خلف الستائر والواجهات الحاجبة والمواجهات بالوكالة، وانتقالها إلى المواجهات المباشرة على أكثر من جبهة، فإن العام الآفل 2016 حمل لها ما لم تحتمله وما لا يمكن أن تتحمله. ولا غرو في القول إن مملكة آل سعود صعدت، مع سلمان ونجله محمد، بسرعة فائقة إلى ذروة الحضور والخوض المباشر عبر عواصف في المنطقة توجتها بعاصفة الحزم، لكنها بالسرعة نفسها بدأت تهبط نزولاً بشكل دراماتيكي ما دفع الكثيرين من الباحثين والمستشرفين للذهاب بعيداً في التشاؤم حيال مصيرها إلى حد توقع زوال حكم آل سعود وانتهاء قرن من هيمنتهم على الحجاز وشبه الجزيرة العربية.
ولكن، رب سائل عن سبب التشاؤم السالف، هل هو واقعي ومنطقي وقائم على وقائع ومعطيات، أم أن فيه مبالغة أو استعجالاً وانحيازاً، أم أنه ضرب من الخيال مبني على تمنيات وأوهام؟. لا يمكن لعاقل أن يجزم بفكاك الأسئلة عن بعضها بعضاً واستخلاص جواب واحد قاطع، بيد أن سرد الوقائع يؤسس لجواب مرجَّح، ومن الوقائع على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: تتربع حرب اليمن بلا منازع في صدارة السياقات التي تعزز توقعات المصير المجهول لمملكة آل سعود، فالملك الهرم ونجله المتعجل، استعجلا إشعال النار في حديقة المملكة الخلفية وأحدثا عاصفة هوجاء لا يبدو أن النفخ عليها قد يفلح في عدم تمددها إلى عباءة الملك ومستقبل نجله الطامح، فشرعية عبد ربه منصور هادي التي لأجلها كانت الحرب سقطت حتى من برنامج التفاوض، ومقاتلو الحوثي يصولون ويجولون في عمق الأراضي السعودية في جيزان ونجران وعسير وجنود بن سلمان أمامهم يفرون، ومفاوضات وقف الحرب التي تستعجلها الرياض لا يبدو أنها ستنتهي إلى تحقيق أي من أهداف عاصفة الحزم، وصورة المملكة الملطخة بانتهاكات الحريات ازدادت تشوهاً بفعل جرائم الحرب التي لفظاعتها لم يعد بإمكان تقارير المنظمات الدولية وحقوق الإنسان التغافل عنها.
ثانياً: إذا كانت المملكة متعثرة في حربها المباشرة في اليمن، فحروبها المتعددة وغير المباشرة العسكرية والسياسية في غير دولة في المنطقة لا تجري رياحها كما تشتهي. في سوريا يكاد الدور السعودي ينحسر إلى مستوى المشاغبة لا أكثر في ظل استقرار المشهد الميداني على أدوار كبرى لروسيا وأميركا وتركيا وإيران، فالجبهة الجنوبية في درعا الأقرب جغرافياً الى السعودية باتت خارج دائرة التأثير وغرفة الموك خارج الخدمة، وفي الغوطة فقد جيش الإسلام ذراع السعودية الرئيس معظم مناطق سيطرته ولاذ بمعقله في دوما ومحيطها، وفي الشمال السوري خرجت الرياض من مولد المصالح التركية مع روسيا بلا حمص، وفي حلب سقط آخر هوامش تسللها إلى لعبة الكبار. وفي العراق يكاد مشهد اضطرارها لتغيير سفيرها ثامر السبهان يلخص ضمور حضورها إلى حد الهزيمة، وإن كانت تقامر بورقة داعش في وجه حكومة بغداد والحشد الشعبي، أما جولتها الأخيرة في الموصل بعد الفلوجة والرمادي فتؤكد اتجاهها للإفلاس. وفي معاركها السياسية قد يكون مشهد دخول ميشال عون حليف حزب الله وإيران رئيساً منتخباً إلى القصر الجمهوري في لبنان واحداً من أبرز تجليات هزيمة السعودية.
ثالثاً: ما زاد في طين إخفاقات السعودية بلة، هو تدهور علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية، وما بدا موارباً في انتقادات الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما للمملكة ومناهجها الوهابية، ترجمه مزاج أميركي عام عبر أعضاء الكونغرس الذين أقروا قانون" جاستا" الذي يضع أموال المملكة وأصولها المالية في الولايات المتحدة التي تُقدر بنحو ألف مليار دولار تحت رحمة أي حكم قضائي يجرّمها على خلفية هجمات 11 أيلول سبتمبر. ولم تكد المملكة تستوعب تداعيات ضربة "جاستا" حتى جاءها دونالد ترامب سيداً للبيت الأبيض يطالبها بضريبةٍ بدل حمايتها ولا يرى فيها شريكاً ذا قيمة. وحتى أوروبياً تبدو السعودية في موقع المتهم بتصدير الفكر الوهابي المؤسس للإرهاب الذي ضرب القارة العجوز، ومن كانت دولة النفط وصفقات الأسلحة الضخمة تلوذ بهم انتهت صلاحية تأثيرهم وعلى رأسهم فرنسوا هولاند المستسلم مسبقاً لصعود اليميني فرنسوا فيون غير المغرم بالنموذج السعودي، ولولا تيريزا ماي الخارجة من الاتحاد الأوروبي لخرجت الرياض كلياً من دائرة الاهتمام الأوروبية.
رابعاً: الوضع الاقتصادي المأزوم للبلد الذي يملك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم لم يعد بإمكان القابضين على قرار المملكة إخفاءه أو التقليل من مستوى تدهوره، فالاحتياط المالي الضخم في نزف مستمر والاحتياط النفطي فقد قيمته في التعويض بعد أن انقلب السحر على الساحر في لعبة عض الأصابع التي بدأتها الرياض ضد موسكو وطهران برفضها خفض حجم الإنتاج اليومي لرفع أسعار النفط. ولا يختلف اثنان على أن حجم الإنفاق الهائل في الحرب على اليمن هو السبب الرئيس في التدهور الاقتصادي في دولة كانت، قبل سلمان ونجله وعواصفهما العبثية ، من أغنى دول العالم مالياً، ومن يرصد تتابع قرارات التقشف الحكومية ورفع الدعم عن سلع استهلاكية رئيسية يدرك الدرك الذي وصلته الحالة الاقتصادية. من جيوب مواطنيها بدأت المملكة تأخذ بدل أن تعطي، أما محاولتها مد يدها إلى جيوب جاراتها في مجلس التعاون الخليجي عبر فكرة الاتحاد الخليجي فلا يبدو أنها ستنجح وهي من تأجيل إلى ترحيل.
لم تعد المملكة كما كانت منذ تورطت بما هو أكبر من قدرتها وأبعد من خبرة حاكمها الجديد، وكما الرؤية السياسية القاصرة للملك العتيد محمد بن سلمان، يبدو انعدام الرؤية صفة ملازمة لرؤية السعودية 2030.
وإلى كل ما سلف، وعلى رأس أسباب ضمور دور المملكة واحتمال أفولها، تحضر الخلافات غير المسبوقة داخل العائلة المالكة. وإن كان رماد التحريض وخوض الحروب المفتعلة يُخفي جمر الخلافات لا سيما بين ولي العهد ومن معه من فئة الصامتين الكامنين وولي ولي العهد ومن معه من متحكمين ومتسلطين ، فإن تلك النزاعات التي بدأت الاوساط السياسية والإعلامية الغربية تتحدث عنها بكثافة لن تستمر خامدة إلى ما لا نهاية، ويتفق كثيرون من متتبعي مسار السعودية ومصيرها على أن سيناريو احتواء الهزيمة في اليمن وحده الكفيل أن يكون إما جرعة إنعاش مؤقتة للعائلة المتهالكة وإما فتيل تفجير داخلها.