ستراتفور- ترجمة شادي خليفة -
ليس سرا أن محرك الاقتصاد الأساسي في المملكة العربية السعودية هو شركتها العملاقة في مجال الطاقة، شركة النفط العربية السعودية «أرامكو». وتنتج الشركة تقريبا جميع النفط والغاز الطبيعي في المملكة، ما يمثل 63% من إيرادات الحكومة العام الماضي، حتى في ظل انخفاض أسعار النفط ومحاولة التنويع بعيدا عن قطاع الطاقة. ولكن ربما الأمر الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة للشركة هو كفاءتها وإدارتها الداخلية الماهرة، وهي الخصائص التي نادرا ما توجد في معظم شركات النفط الوطنية.
لكن قد لا تحتفظ هذه الشركة بهذه الصفات لفترة أطول. وقد بدأ ولي العهد الأمير «محمد بن سلمان» في إحداث تغييرات جذرية في قيادة المملكة وصناعة النفط، الأمر الذي قد يسلب «أرامكو» السعودية ما يميزها على أقرانها الأقل فعالية على المدى الطويل، وخاصة في ظل التحديات الجديدة الناشئة أمام نمو الشركة لتصبح شركة متعددة الجنسيات.
تجنب عدم الكفاءة
مع منتصف القرن العشرين، هبت موجة من التأميم لصناعة النفط والغاز الطبيعي. ووصلت الحركة إلى الشرق الأوسط عام 1951، عندما صوت البرلمان الإيراني على منح أصول شركة النفط الأنجلو-فارسية لشركة النفط الوطنية الإيرانية المملوكة للدولة. وعلى الرغم من أن المشرعين ألغوا هذا القرار بعد عامين، فإن كل بلد تقريبا من الشرق الأوسط كانت قد بدأت باتخاذ خطوات لتأميم صناعاتها النفطية بطريقة ما على مدى العقود الثلاثة التي أعقبت ذلك.
ولم تكن السعودية في معزل عن هذا الاتجاه، لكنها تمكنت من إحداث تغيير تدريجي بشكل أفضل من العديد من جيرانها. ولم يكن على المملكة أن تتعامل مع المشاعر المناهضة للاستعمار التي غذت دعوات السياسات القومية في بقية أنحاء المنطقة. أما الشركة «العربية الأمريكية للنفط» -التي اتخذت من الولايات المتحدة مقرا لها- التي أصبحت لاحقا شركة «أرامكو» السعودية، فكانت تسيطر على صناعة النفط السعودية. وكان من شأن تأميم شركة النفط العربية الأمريكية أن يعرض علاقات الرياض العميقة مع واشنطن للخطر، وكانت المملكة حريصة على حماية هذه العلاقات. وبسبب هذه العوامل، لم يتم تأميم «أرامكو» السعودية بالكامل حتى عام 1988.
وحتى ذلك الحين، بقي المديرون التنفيذيون الأجانب على رأس الشركة. وحافظ وجود العديد من موظفي الشركة الأجانب لفترة طويلة على ألا تسيطر المملكة -بشكل أحادي- على «أرامكو» السعودية، لكنها اشترتها بصورة مشروعة. وفي محاولة لتهدئة المسؤولين السعوديين الذين يقودون مطالب التأميم، قادت الشركة برنامجا لزيادة فرص العمل بين المواطنين السعوديين. ولكن لتفادي هجرة الأدمغة التي عصفت بالكثير من جيران المملكة، قامت «أرامكو» السعودية بتدريب العمال السعوديين الواعدين الوافدين وأرسلتهم إلى الخارج لتلقي تعليمهم، أملا في نقلهم يوما ما إلى مواقع قيادية في الداخل.
ومع هذا التحول التدريجي نحو سيطرة الدولة، حافظت «أرامكو» السعودية على ثقافة مؤسسية قوية لا تختلف عن ثقافة الشركات النفطية الدولية، وهو إرث كان استمراره أهم من تأميم الشركة. واليوم، تأتي ميزانية الشركة منفصلة عن الميزانية الحكومية. وبالإضافة إلى الضرائب والأرباح التي تقدمها إلى مساهميها في الرياض حاليا، تحافظ «أرامكو» السعودية على إيراداتها. وكان هذا التحرك وسيلة لعزل الشركة عن الفساد المتفشي بين المسؤولين السياسيين في المملكة. وعلى النقيض من ذلك، ترك التأميم لمعظم قطاعات الطاقة في بلدان أخرى شركات مجوفة ذات ميل مشهور إلى الكسب غير المشروع وعدم الكفاءة.
والأهم من ذلك، اتخذت الدولة السعودية نهجا متوازنا في تشغيل وإدارة قطاع النفط. وبدلا من الاحتفاظ بالسيطرة على الشركة لدى فرع معين من آل سعود - كما هو الحال مع الوزارات والشركات الأخرى- تركت الحكومة الشركة في أيدي تكنوقراط مهنيين. وتم عزل «أرامكو» عن الإقطاعيات القائمة على المحسوبية، التي تشكل الفسيفساء المعقدة للدولة السعودية.
مصدر للسلطة والدعم
ومن غير الواضح ما إذا كان توطيد «بن سلمان» مؤخرا للسلطة وخطط الإصلاح سوف تقوض استقلالية شركات الطاقة وقدراتها. وبينما يأمل ولي العهد أن يدفع «أرامكو» نحو المزيد من الشفافية، وأن يحقق الاكتتاب العام الأولي للشركة مزيدا من كفاءة الشركة، فإنها لن تستمر في التمتع بنفس النجاح إذا أصبحت أكثر ارتباطا بالسياسة، وذلك ربما ما يخشاه الكثيرون.
وقد نشأت مخاوف بشأن استقلالية صناعة النفط بعد صعود الملك «سلمان» إلى العرش في يناير/كانون الثاني عام 2015. وفي أحد مراسيمه الأولى، عزز الملك البيروقراطية السعودية، ووضع النجم الصاعد «محمد بن سلمان» على رأس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. ثم في مايو/أيار من ذلك العام، أنشأ الملك المجلس الأعلى لـ«أرامكو» السعودية للإشراف على الشركة، ومنح رئاسته لنجله.
وفي ضربة واحدة، أبعد الملك «أرامكو» السعودية عن وزارة النفط التكنوقراطية، ووضعها تحت السيطرة المباشرة لفرع واحد من العائلة المالكة. ولم يمض وقت طويل قبل أن يعلن ولي العهد بوضوح نيته القيام بدور نشط في عملية صنع القرار داخل الشركة، من خلال الإعلان عن الاستعدادات للاكتتاب العام.
وقد أثارت مسؤوليات «بن سلمان» الجديدة مزيدا من القلق بشأن تسييس قطاع الطاقة في أبريل/نيسان عام 2016. وفي بداية العام، انخفضت أسعار النفط إلى ما يقرب من 25 دولارا للبرميل، وتم رفع العقوبات المفروضة على إيران، مما جعل المنافس الإقليمي للمملكة يضاعف من صادراته النفطية. وبدأ التكنوقراط في المملكة -بقيادة وزير النفط منذ فترة طويلة «علي النعيمي»- النظر بجدية في التوصل إلى اتفاق لتنفيذ تجميد للإنتاج في منظمة «أوبك»، من أجل مواجهة الهبوط الحاد في الأسعار. وأشارت جميع الدلائل إلى أن الكتلة توصلت إلى اتفاق يستبعد إيران خلال اجتماعها في أبريل/نيسان.
ولكن في اللحظة الأخيرة، رفضت السعودية الاتفاق. وأدى التحول غير المتوقع للأحداث إلى أن «النعيمي» -أقوى صوت في صناعة النفط السعودية لأكثر من عقدين- لم يعد يحظى بالثقة في الداخل. وبدلا من ذلك، تدخل ولي العهد، أملا في إجبار التفاوض على اتفاق يشمل إيران. وبعد الحادث مباشرة، حل «خالد الفالح» محل «النعيمي» على رأس وزارة النفط. وقد اختار الملك «الفالح» -وهو تكنوقراط- للمنصب بدلا من أحد أبنائه، عكس ما كان يتوقع الكثيرون.
ومنذ ذلك الحين، أصبح الاكتتاب العام لشركة «أرامكو» السعودية حجر الزاوية في حزمة الإصلاحات التي وضعها ولي عهد تحت مسمى «رؤية 2030». وتهدف عائدات الاكتتاب العام -على الورق- إلى ملء صندوق الاستثمار العام الوليد في المملكة، وكذلك أي أسهم غير مباعة من «أرامكو». ولكن لأن الصندوق تحت سيطرة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية -وبالتالي «بن سلمان»- فقد تصبح خزائنه وأرباح الشركة مصدر شبكات الرعاية والدعم لولي العهد.
مخاطر الإصلاح
وقد تكون نوايا «بن سلمان» من الاكتتاب العام لشركة «أرامكو» جيدة، ويظل بإمكانه اختيار الحفاظ على نهج الاستغناء عن إدارة أبناء العائلة المالكة للشركة كما فعل أسلافه. ومع ذلك، قد يتسبب ولي العهد في تعرض الشركة للخطر من خلال إزالة عنصر التكنوقراط من قيادة الشركة، وخاصة خلال فترة التحول التي تشهدها صناعة الطاقة في المملكة.
وفي البداية، سيكون الاكتتاب نفسه مسعى محفوفا بالمخاطر. وبما أن المملكة قد أعلنت عن الجدول الزمني المتسارع للمشروع، فقد اضطرت إلى التفاوض مع عدد من البورصات المختلفة، بما في ذلك بورصات المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لوضع تفاصيل الجزء الدولي من الاكتتاب العام. وعلى الرغم من أن «بن سلمان» قد دعا إلى إدراج الاكتتاب العام في بورصة نيويورك، خاصة وأن علاقته مع البيت الأبيض عميقة، يبدو أن معظم المسؤولين السعوديين يفضلون استخدام بورصة لندن، لأنها واحدة من أكبر البورصات في العالم، ولأنها ستكون قادرة على إدارة عرض ضخم لشركة بحجم «أرامكو». وعلاوة على ذلك، فإن من شأن سوق لندن للأوراق المالية أن يحقق قدرا أقل من التدقيق في احتياطيات النفط للشركة مقارنة بنظيرتها الأمريكية.
وفي نيويورك، سوف يطرح الاكتتاب عددا كبيرا من الأسئلة حول الاستراتيجية المؤسسية لشركة «أرامكو»، والأهداف طويلة الأجل والالتزامات المالية للمساهمين. ولا يقتصر هذا التدقيق على تقليل الفائدة بين المستثمرين المحتملين فحسب، بل سيثير أيضا التساؤل عما إذا كانت تكاليف الاكتتاب العام قد تفوق الفوائد الاقتصادية. وعلى الرغم من هذه الأسئلة الملحة التي لم يتم الرد عليها بعد، فإن المسؤولين السعوديين يصرون على أن الاكتتاب العام يسير على المسار الصحيح ليتم في عام 2018. لكن المزيد والمزيد من الأرقام قد أثارت إمكانية تأخير الجزء الدولي من عملية العرض والبيع.
وتقوم «أرامكو» بإجراء تغييرات جوهرية في استراتيجيتها المؤسسية. وتم تصميم هذه التعديلات ليس فقط لجعل الشركة أكثر جاذبية للمستثمرين قبل الاكتتاب العام، ولكن أيضا لمواجهة التحديات التي تواجه الشركة. وحتى قبل أن تنخفض أسعار النفط عام 2014، أمضت المملكة عقدا من الزمن لتوسيع عملياتها في الداخل والخارج، وكثيرا ما كانت تشترك مع شركات النفط العالمية في هذه العملية. وبذلك، أصبحت «أرامكو» السعودية شركة نفط أكثر تكاملا، وأصبحت ذات قيمة أعلى في هذه الصناعة.
ومنذ تراجع أسعار النفط، ضاعفت الشركة من تلك الاستراتيجية. وكشفت الشركة عن خطة استثمارية جديدة مدتها 10 أعوام في 12 ديسمبر/كانون الأول، بإنفاق يبلغ 414 مليار دولار، أي بزيادة 25% عن تقديرات العام السابق، وسيتم تخصيص ما يقل قليلا عن نصف هذه الأموال لقطاعات المصب والبتروكيماويات. وبعيدا عن حدود المملكة، تدرس «أرامكو» إمكانية الاستثمار في أصول المنبع. ويبدو أن الشركة تفكر في الحصول على حصة في مشروع نوفاتيك 2 للغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي، وقال مسؤولون سعوديون إن شراء المزيد من أصول الغاز الطبيعي المسال قد يكون في الأفق. كما استكشفت الرياض خيار شراء أصول الصخر الزيتي في الولايات المتحدة.
ويؤكد كلا الطريقين وجود مشاكل أخرى في المملكة؛ حيث أن إنتاج الغاز الطبيعي في المملكة ليس رخيصا. وعلى الرغم من أن إنتاج الغاز الطبيعي في البلاد كبير، إلا أن معظمه مجرد نتيجة ثانوية لإنتاج النفط الخام. وعند التفكير في الاستفادة من احتياطيات الغاز الطبيعي الأكثر وفرة في المملكة، نجد أنها إما حامضية (ملوثة بكبريتيد الهيدروجين)، أو في البحر أو محاصرة في تشكيلات الصخر الزيتي بصحراء الربع الخالي، لذا فإن الاستثمار فيها اقتراح مكلف. ومع ضوابط سعر الغاز الطبيعي في المملكة، تصبح هذه المشاريع المخصصة لإنتاج الغاز الطبيعي غير اقتصادية وفقا للمعايير الدولية. ومع ذلك، فإن هذه المشاريع - إلى جانب واردات الغاز الطبيعي المسال - ستصبح قابلة للتطبيق إذا ارتفعت الأسعار أكثر من ثلاثة أضعاف. ولذلك يتوقع المستثمرون أن تتخذ المملكة خطوات لتهيئة الأسعار قبل أي اكتتاب عام.
منحدر زلق
وتشير التحولات الجارية داخل قاعات «أرامكو» إلى وجود 4 تغييرات جديدة في المستقبل. أولا، سيؤدي الاكتتاب العام -إذا تحقق- إلى زيادة الرقابة على الميزانية العمومية للشركة وأدائها. ثانيا، ستصبح «أرامكو» -على نحو متزايد- شركة متعددة الجنسيات في حد ذاتها تفتخر بالاستثمارات في المنبع والمنتصف والمصب في جميع أنحاء العالم. ثالثا، ستصبح الشركة أكثر انخراطا في مشاريع المصب والبتروكيماويات ذات العلامات التجارية العالمية، مثل مشروع مشترك بقيمة 20 مليار دولار مع شركة سابك للبتروكيماويات، تم الإعلان عنه في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017. رابعا، لن تكون مشاريع «أرامكو» الجديدة في مجال المنبع -مثل جهودها النموذجية للاستفادة من احتياطيات النفط- رخيصة، لأنه نظرا لأن الشركة تحاول إنتاج الغاز الطبيعي الحامض والصخري، فلن يكون أمامها خيار سوى تسخير تكنولوجيات أكثر تطورا.
وستكون طبيعة «أرامكو» غير السياسية والتكنوقراطية حاسمة لنجاحها في إدارة كل من هذه التطورات في الأعوام المقبلة. ولكن نظرا لعلامات التسييس التي برزت بالفعل في سياستها المؤسسية تحت حكم «بن سلمان»، فإن أيام الشركة كشركة نفط وطنية مستقلة ومتخصصة قد تكون معدودة.