د. رجب بن علي العويسي- عمان اليوم-
يأتي تناولنا لهذا الموضوع في ظل الحديث المستمر عن الموازنة العامة للدولة والنقاشات المطروحة بشأنها عبر وسائل الإعلام الوطنية المختلفة، والتي في تقديرنا تعبّر عن حالة صحية تُبرز تحولا في الوعي المجتمعي، ورغبة في التعاطي مع التحولات الاقتصادية بفهم أعمق، وقراءة أدق لمؤشرات الواقع، وتستشرف مستقبل العمل الوطني القادم في تجاوز حالة انخفاض أسعار النفط، لست هنا في معرض تقييم ما يتم طرحه من بدائل مع القناعة بأهمية أن تنال كل البدائل المطروحة الدراسة والتقييم والتعامل معها في إطار المصلحة الوطنية العليا التي ترتبط بتحقق مصلحة المواطن، ووضعه في الصورة المباشرة لأي توجهات تدرس هذه المسألة، وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى حلول توافقية مستدامة يحقق أقطابها المواطن، والحكومة، والمؤسسات، بُعد الأداء واستدامة الإنجاز والابتكارية فيه كمعيار رئيسي في أي تحول في مسألة المعالجة. وبالتالي التفكير الجمعي المعمق للوصول إلى رؤية عمل موحدة في ظل حوارات تصارح الواقع وتبحث في العمق المؤدي لحسم النتائج متجاوزة حدود التراجع متخذة من المراجعة المقنعة المدعومة بالمؤشرات ونماذج التقييم فرصتها لممارسة مالية أفضل، وبالتالي جعل منافذ الحوار والتواصل مفتوحة من خلال تعدد اللقاءات، وتنوع الجمهور، واستيعاب معطيات التباين في وجهات النظر، مع رصد دقيق لها والبحث في إجراءات تنفيذها، والاتفاق على إطار زمني يحدد فيه الجميع سقف إمكانياته. هذه المعالجات يجب أن تُبنى في إطار الأولويات ومستوى التأثير المترتب عليها والقيمة الخفية الإيجابية الناتجة عنها في التقليل من حجم النفقات والمصروفات، بشكل يحافظ على قدرة الموازنة العامة للدولة في التعاطي مع التغيرات المرتقبة، وخطط الطوارئ المحتملة، في قطاعات التنمية، وهو ما يعني أن مسألة الدخول في مغامرة البحث الجزئي لم تعد قائمة في ظل منظور التوازن في رؤية المعالجة وقراءة العمق الإنساني باعتباره الاستثمار الذي يضع سقف التوقعات بقوة الموازنة العامة مفتوحا في تأدية مهامها بكفاءة، وأن يكون التوجه لتعزيز مستويات الوعي وترسيخ ثقافة الاستثمار وتحجيم سلوك الاستهلاك وفق معايير نابعة عن اختيار ورغبة وشعور متبادل باعتباره فرصة استثمارية تحافظ على مفهوم التوازن المطلوب في الحياة اليومية للمواطن.
وبالتالي طرح جملة من البدائل التي يمكن النظر إليها كإنجاز وطني في التعامل مع الممارسات المالية وإعادة صياغتها بشكل يضمن لها الفاعلية والتأثير وتغيير نمط الواقع المالي من خلال تشجيع الاستثمار الوقفي بالمؤسسات، ووضع قواعد لإدارته، والعمل على تعزيز المرونة في التشريعات واللوائح وأنظمة التشغيل بالشكل الذي يسهم في تمكين المواطن من توظيف خبراته وقدراته وإنتاجه المعرفي في إدارة مشروعاته الاقتصادية الصغيرة، والمتوسطة، والتمكّن من تحقيق الإنتاجية الفعلية لهذه المشروعات، والتحول بمفهوم المسؤولية الاجتماعية لمؤسسات القطاع الخاص إلى ممارسة مالية تضمن رفد الموازنة العامة للدولة وفق أنظمة عمل مقننة تراعي حجم الاستثمار والكفاءة الإنتاجية، ونشاط السوق الذي تعمل فيه، وإعادة النظر في بنود الصرف المؤسسي لتتوافق مع طبيعة التحولات الحاصلة، والسقف المالي المطلوب منها العمل في ظله، واعتماد منحى التكاملية في هذه البنود ومستويات التوزيع لها على مجالات عمل المؤسسة، مراعية في ذلك حجم التطور الحاصل فيها وعلاقته بالأداء، على أن ذلك يستدعي أيضا وجود خطة طوارئ مالية بالمؤسسات تتضح فيها تفاصيل الصرف وبنوده منعا من الاجتهادات الشخصية التي قد تتجاوز حدود المقبول.
وعليه فإن البحث عن أطر جديدة لمعالجة الممارسات المالية بالمؤسسات يستدعي تبني قرارات استراتيجية تضع كل قطاعات التنمية الوطنية ومؤسسات الدولة المدنية بلا استثناء، أمام واقع المراجعة لسياساتها المالية، متخذة من التوازن والتكامل والأولويات مرتكزات رئيسية في تعاملها مع نتائج المراجعة، فإن حسم المسألة لا يتم إلا من خلال معالجة جذرية للممارسات المالية القائمة وسد الثغرات الموجودة بها مع تقنين مفهوم الصلاحيات في ظل مؤشرات قياس ومحاسبية مشروطة لنتائج العمل، والقيمة المضافة للإنجاز المؤسسي، في ظل تفكير مجتمعي بناء يقيس نمط المعالجة بميزان الكفاءة الأدائية والعدالة المهنية ومستوى إسهامها في التنويع الاقتصادي، ورفد الموازنة العامة للدولة، وبما يقطع السبيل أمام حالات الاغتراب لبعض الأقلام وتغريداتها خارج سرب الوطن (الدولة والإنسان) وما تطرحه من معالجات وقتية سطحية تغامر بحق المواطن بدون التفكير في مداخل أو سيناريوهات عمل بديلة أخرى يمكن أن يسهم المواطن في صناعتها باختيار ورغبة وشعور بمسؤوليته نحو وطنه.