في ظل أزمة النفط الأخيرة، بدت دول الخليج كما لو كانت تبحث عن هوية اقتصادية جديدة، بعيداً عن الاعتماد الدائم على النفط الذي جاء تراجع أسعاره ليضع هذه الدول أمام خيار لا مفر منه، وهو تبني نموذج اقتصادي يقوم على التنوع، ويبتعد عن النفط كركيزة أساسية للاقتصاد، وهو ما قاد الدول لتقديم رؤى اقتصادية متنوعة وطموحة نحو اقتصاديات جديدة أكثر استقلالاً.
عالمياً، برز النموذج الاقتصادي الاسكندنافي بقوة، وخاصة خلال الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث تمكنت تلك الدول من تحقيق نمو حقيقي حين كانت حالة الاقتصاد في دول كبرى تواجه ضربات مؤثرة، فما الذي يقوم عليه اقتصاد تلك الدول؟ وهل يمكن اتباع هذا النموذج وتطبيقه في مناطق أخرى، لا سيما منطقة الخليج التي تبحث عن هوية اقتصادية جديدة تميزها في عصر ما بعد النفط؟
أشار تقرير صدر عن بنك "دانسكي" الدنماركي إلى نمو اقتصادي في كل من النرويج والسويد بنسبة 0.7% و1.3% في عام 2013، في الوقت ذاته الذي لم تشهد فيه بقية الدول الأوروبية أي نمو، وهو ما وجه الأنظار نحو هذا النموذج الاقتصادي، على خطا اقتصاد سنغافورة في نهاية القرن الماضي.
الفكرة الرئيسية التي قام عليها النموذج الاقتصادي لبلدان الشمال الأوروبي، هي تطوير القطاع العام وتحقيق إصلاحات حقيقية بما يجعله أكثر كفاءة واستجابة لتوجهات الدولة.
النظام الضريبي للدول الاسكندنافية يؤمن عائدات ضريبية كبرى تزيد على عائدات دول تفوقها في المساحة وعدد السكان مثل الولايات المتحدة.
تصل نسبة العائدات الضريبية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الاسكندنافية إلى 49% في حالة الدنمارك، في حين تبلغ النسبة في النرويج والسويد وفنلندا قرابة 45%.
وبالنظر إلى النسبة ذاتها في دول الخليج، نجد أنها لا تتجاوز 5.3% في أفضل الأحوال في حالة السعودية، في حين تقل عن ذلك في الدول الأخرى لتراوح بين 1 و 3% فقط، على الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي متقارب في حالة السعودية والسويد، وفي حالة الإمارات والنرويج، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في 2015.
ربما لم تكن الدول الاسكندنافية لتخرج رائد أعمال بحجم ستيف جوبز، أو شركة كبرى بحجم جنرال موتورز، أو حتى طفرات طبية كبرى كتلك التي تأتي على الأغلب من الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو الحال نفسه بالنسبة لدول الخليج، لولا أن تلك الدول ركزت جهودها بشكل كامل على نظام التعليم الأساسي لأبنائها، لتتصدر أفضل الأنظمة التعليمية عالمياً وأقواها، والذي توفره الدولة لهم مجاناً بجانب نظام رعاية صحي متميز كعائد أساسي على الضرائب التي يدفعونها.
يشير تقرير "Pearson" لجودة التعليم إلى وجود الدول الاسكندنافية بالكامل ضمن أفضل 25 نظاماً تعليمياً عالمياً، في الوقت الذي يشهد فيه التقرير غياباً عربياً كاملاً، على الرغم من تصدر عدد من الدول الآسيوية مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وهونغ كونغ.
يمكن رؤية نتائج الاهتمام بالنظام التعليمي في شركات كبرى خرجت من تلك الدول مثل "أيكيا" و"فولفو" و"ليغو" و"نوكيا"، بالإضافة إلى ريادة تلك الدول في مجال تطبيقات المحمول التي غزت العالم.
يشير تقرير السياسات الاقتصادية الاسكندنافية لهذا العام إلى أحد العوامل المهمة في النمو الاقتصادي لتلك الدول، وهو الاستفادة القصوى من الموارد البشرية للبلاد من الرجال والنساء.
حيث يشير التقرير إلى نسب عمالة متساوية بين الجنسين في كل تلك الدول، وهو ما يميزها بصورة أكبر عن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (تضم 34 دولة كبرى)، كما تحقق جميع الدول الاسكندنافية نسباً منخفضة للغاية في معدلات الفقر بحسب التقرير.
ربما يكون السؤال التالي هو: كيف انطلقت شركات واستطاعت تحقيق ريادة عالمية، وأن تبرز بهذا الشكل مع أنها جاءت من دول ربما يراها بعضهم أصغر من أن تحقق هذا الكم من الإنجاز الاقتصادي أمام رأس المال العالمي والمنافسة القاتلة التي تفرضها دول كالولايات المتحدة والصين؟
في حين أن دولاً كدول الخليج، التي تملك الموارد الكبرى والموقع الجغرافي والمناخ المميز- وهي أمور لا تتوافر في دول الشمال الأوروبي- لا نراها تحقق ولو جزءاً ضئيلاً من ذلك.
ربما يجيبنا تقرير البنك الدولي حول سهولة بدء كيان جديد أو شركة ناشئة في مختلف الدول، والذي يشير أيضاً إلى وجود الدول الاسكندنافية بالكامل في أول 10 مراكز من القائمة، في الوقت الذي تظهر فيه أعلى دول خليجية: الإمارات في المركز 31، ثم البحرين في المركز 65، وقطر في المركز 68، بينما جاءت السعودية في المركز 82 في القائمة التي ضمت 189 دولة.
تشير تقارير اقتصادية متعددة إلى أخطار اقتصادية كبرى تحدق بدول الخليج في الوقت الحالي، بالتأكيد أهم ما يظهر للجميع منها هو تراجع أسعار النفط، والاضطرابات في المنطقة، في كل من العراق وسوريا تحديداً، والكلفة الاقتصادية الباهظة لحالة عدم الاستقرار تلك، والتي تدفع دول الخليج إلى تدخل مباشر في الأوضاع، إلا أن هناك مشكلات أخرى مترتبة قد تكون أكثر خطورة؛ مثل جفاف السيولة، التي أدت إلى عوائق قاتلة أمام شركات عملاقة في المنطقة.
تحاول دول الخليج في الوقت الحالي التفكير خارج الصندوق، والبحث عن بناء نماذج اقتصادية جديدة، وهو ما نجحت فيه الإمارات نسبياً في الأعوام الأخيرة، في حين ما زالت بقية الدول تحاول التوصل إلى أنظمة تمكنها من الاستمرار والحضور بقوة أمام ما يواجهها من تحديات، وهو ما بدا واضحاً على سبيل المثال في خطة السعودية "رؤية السعودية 2030"، وسعي عمان نحو الاتجاه للصناعات الثقيلة كالألمنيوم والحديد والبتروكيماويات وتطوير الموانئ، فيما عرف بـ"رؤية 2020".
كذلك في قطر أيضاً، التي شهدت تطوراً ملموساً على المستوى التعليمي والصحي وجانب البنى التحتية، مع بعض الخطط الطموحة لبناء نموذج فريد يبحث عن الريادة والدور الفاعل في المنطقة، مروراً بالتأثير العالمي.
في الكويت، تركز الخطة الإنمائية الخمسية المفترض حصد ثمارها بحلول عام 2020 على جعل الكويت مركزاً مالياً وتجارياً جاذباً للاستثمار.
ربما يُخيل إلى البعض من خلال التقارير والإحصاءات التي دائماً ما تشير إلى تصدر الدول الاسكندنافية في كل ما يتعلق بالجودة والنمو والكفاءة، أنها تشبه المدن الفاضلة، وأنها دول بلا أخطاء، وهو أمر غير حقيقي، فربما لدى هذه الدول مشكلاتها الداخلية والخارجية.
وهي كذلك تتأثر اقتصادياً في بعض الأحيان بتغيرات الاقتصاد والسوق العالمي، إلا أنها تظل النموذج الأفضل عالمياً بشهادة الجميع لإدارة الثروات وتكوين مجتمعات تشاركية قائمة على اقتصاد متنوع، كما أنه نموذج قابل للتطبيق والاستنساخ في دول أخرى، خاصة بالحديث عن منطقة الخليج ذات الثروات والموارد البشرية والعوامل الجغرافية المميزة.
لذلك، فنموذج الدول الاسكندنافية هو نموذج مهم للغاية، يجب عدم إغفاله في أي خطط اقتصادية مستقبلية توضع في تلك الدول، وخاصة إذا تحدثنا عن العوامل المذكورة سابقاً من نظام ضريبي، وما يقابله من جودة التعليم والرعاية الصحية، وتسهيلات بدء الأعمال والشركات، وسن القوانين التي تساعد على ذلك.
الخليج اونلاين-