عامر ذياب التميمي-البيت الخليجي-
مذ بدأت الكويت تجني أرباح الثروة النفطية وبدأت تصدير شحنات النفط الخام عام 1946م اعتمدت حكومة البلاد سياسات ترضية للمواطنين الذين عانوا من شظف العيش لزمن طويل، بحياة سعيدة ومستوىً معيشي ملائم. كان من الأمور الأساسية توفير الخدمات الاسكانية من خلال آليات ميسرة، وقامت الحكومة بتثمين المساكن المتواضعة داخل المدينة وخصصت قسائم بمساحات جيدة خارج أسوار المدينة القديمة كما أسست بنك الائتمان، التسليف والإدخار لاحقاً، لتقديم قروض ميسرة دون فوائد وبمدد طويلة.
حين إقرت الحكومة الكويتية السياسة الإسكانية في خمسينات القرن الماضي لم يكن عدد سكان البلاد كبيراً حيث يؤكد تعداد السكان الرسمي الأول في عام 1957م بأن إجمالي السكان آنذاك كان يبلغ 225,000 من بينهم 115,000 كويتيًا. في ذات الوقت، كانت الأراضي المخصصة للسكن خارج المدينة متهاودة الثمن ولم يكن سوق العقار محموماً. قامت الدولة أيضا بتهيئة البنية التحتية ووفرت خدمات الكهرباء وتقطير المياه بما يُحسن من نوعية الحياة والارتقاء بمستويات المعيشة.
في عام 1954م تقرر قيام مجلس الإنشاء لتولي مهام تنفيذ المشاريع الإنشائية والإسكانية في البلاد. وباشر ذلك المجلس بعد قيامه بالتعاون مع بلدية الكويت بناء 2000 بيتٍ موزعة على خمس مناطق، وأطلق على تلك البيوت بيوت ذوي الدخل المحدود المخصصة للإسر محدودة الإمكانيات، وتولت دائرة أملاك الدولة التي تأسست عام 1956م توزيع البيوت على مستحقيها.
استمرت التطورات المؤسسية المتعلقة بالإسكان حيث تم تشكيل لجنة الإسكان عام 1958م والتي ضمنت عناصر من خارج الحكومة لتولي الإشراف على توزيع المساكن. أما بنك الإئتمان فقد تأسس عام 1960م لتوفير التمويل الميسر للمواطنين بضمان رواتبهم. إنتقلت مسؤولية توفير المساكن للمستحقين من المواطنين إلى وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل في عام 1962م بعد نيل البلاد استقلالها وتحديث الحياة السياسية وإقامة النظام البرلماني بموجب دستور البلاد الذي إقر عام 1962م. كذلك تطور نظام الإئتمان العقاري في عام 1965 بعد إعتماد قانون بنك التسليف والإدخار الذي بدأ بتوفير قروض للمواطنين الذين يملكون قسائم سكنية أو توفرت لهم من الدولة قسائم، وحددت قيمة القرض بثلاثة عشر ألف دينار كويتي آنذاك، وقد كان ذلك يتم إلى جانب استمرار الدولة ببناء بيوت ذوي الدخل المحدود، وقد استفاد متوسطو الدخل وخريجي الجامعات من تلك القروض وأقاموا مساكن لائقة نسبياً.
جرت تحولات مهمة على أنظمة الرعاية السكنية في البلاد حيث تم إنشاء الهيئة العامة للإسكان عام 1974م ثم إحداث وزارة الإسكان في عام 1975م ودمج الوزارة مع الهيئة عام 1986م. لا شك أن الصدمة النفطية الأولى والتي أدت إلى إرتفاع أسعار النفط بمعدلات قياسية وفرت أموالاً هامة لدى الحكومة قامت بتخصيص مبالغ مهمة للأغراض السكنية. يضاف إلى ذلك أن النظام البرلماني وصبغته الشعبوية التي دفعت إلى تبني مفاهيم جديدة بشأن الرعاية السكنية، لكن الإمكانيات المالية والفلسفة الشعبوية لم تواكبها قدرات تنفيذية لإقامة المشاريع السكنية وتلبية الطلبات المتراكمة لدى هيئة الإسكان والناتجة عن إرتفاع أعداد المواطنين.
كما أن إمكانيات توفير البيئة التحتية الملائمة وتمديدات الكهرباء والمياه ليست من الإمور اليسيرة. لذلك ظلت طلبات الإسكان تتراكم على مدى السنوات وهي تقارب في الوقت الراهن المئة ألف طلب سكني ، أي أن هناك مئة ألف إسرة كويتية مازالت في حال إنتظار لتخصيص سكن لها من قبل الهيئة العامة للإسكان.
تحددت أهداف الهيئة العامة للإسكان على النحو التالي:
توفير السكن الملائم للمواطنين المستحقين.
تقليص الفجوة بين عدد الطلبات ومعدات التنفيذ مع تخفيض فترة الإنتظار.
تحقيق الإستدامة المالية بتحويل الأراضي غير المدرة للدخل إلى إستثمارات مدرة للدخل.
إستقطاب أفضل الأساليب الحديثة في تطوير المشاريع الإسكانية بتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
التوسع في تقديم المنتجات والخدمات العقارية المتنوعة مع الإهتمام بجودة المنتج.
تطوير مدن إسكانية ذكية صديقة للبيئة.
السؤال: هل يمكن تحقيق هذه الأهداف؟ هناك محددات أهمها توفير الأراضي الصالحة للسكن وتنفيذ مشاريع البنية التحتية وتمديد الكهرباء والمياه، وقبل ذلك توفير التمويلات اللازمة.
معلوم أن السكن في البلدان الرأسمالية المتقدمة يظل من مسؤوليات المواطنين أصحاب الشأن بالدرجة الأولى. تعمل الحكومات على تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات من خلال أجهزتها وتشجيع الشركات الخاصة منها لتنفيذ المشاريع السكنية المتنوعة ومن مختلف المستويات. كما أن تلك الدول تشجع قيام مؤسسات مالية متخصصة مثل Saving Loan Association في الولايات المتحدة وال Societies Mortgage في بريطانيا لتقديم القروض طويلة الأجل للمهتمين بإقتناء السكن.
ظلت السلطات التشريعية والتنفيذية في الكويت ترفض أي دور للقطاع الخاص في توفير السكن للمواطنين. وبالرغم من أن شركات عقارية خاصة في البلاد أقامت مساكن بمستويات جيدة في عدد من مناطق البلاد وتمكنت من تسويق عدد من تلك المساكن للمواطنين إلا أن تدخلاً من قبل مجلس الأمة في عام 2008م أوقف دور هذه الشركات ومنع قيامها ببيع المساكن للمواطنين.
أصبح إقتناء السكن بشكل مباشر من الأمور الصعبة مع ارتفاع أسعار الأراضي في البلاد ليصل سعر الأراضي السكنية بمساحة 400 متر مربع في منطقة تبعد عن مدينة الكويت، بثلاثين كيلو متراً لا يقل عن 250 ألف دينار أي ما يزيد عن 830 ألف دولار أمريكي، ونعني بذلك أرض فضاء، وقد لا تتمتع ببنية تحتية ملائمة. وهكذا أصبح على الشباب من المتزوجين حديثاً الإنتظار للحصول على أرض من الدولة ثم الحصول على قرض سكني من بنك الإئتمان، وهو لا يتعدى ال 70 ألف دينار لإنشاء فيلا سكنية مقبولة. القرض الإسكاني لا يمكن أن يقوم بتغطية تكاليف البناء مما يضطر رب الأسرة للإقتراض من المصارف بموجب معايير الإقتراض التقليدية ودفع فوائد مصرفية.
كيف يمكن أن تستمر هذه السياسة السكانية في ظل تكاليفها الباهظة وفي ظل تراجع إيرادات الدولة النفطية، وهل هناك إمكانيات لترشيدها في المستقبل؟ طرحت منذ سنوات طويلة أفكار متعددة من أهمها إعتماد السكن العامودي بدلاً من المساكن المتشكلة على نظام الفلل، أي أن يحفز المواطنون للسكن في شقق في عمارات. لا شك أن مثل ذلك الحل يوفر الأراضي ويوفر البنية التحتية المكلفة وتقصر المسافات بين السكن وأماكن العمل.
قامت الدولة بإنشاء مجمع الصوابر داخل مدينة الكويت ووزعت شقق فسيحة على فئة من المواطنين التي قبلت العيش في الشقق آنذاك، في أواخر سبعينات القرن الماضي. لكن هذا المجمع ستتم إزالته قريباً بعد أن تم استملاك الشقق من قبل الدولة وأخلي تماماً من السكان بما يعني فشل هذه التجربة الإسكانية. بيد أن السكن العامودي، أو السكن في الشقق، هو الحل المناسب لمستقبل الرعاية السكنية حيث يجب أن تتعدل منظومة القيم المتعلقة بالسكن حيث يرى المواطنون أن الحصول على السكن هو استثمار عقاري قد يمكنهم من جني الثروة في حين أن الدولة يجب أن تعتمد فلسفة مغايرة تهدف لتوفير السكن للمستحقين وغير القادرين على شراء المساكن ومساعدتهم من آليات التمويل الميسرة.
في ذات الوقت، لابد أن يتولى القطاع الخاص مسؤولية إقامة المساكن وتحفيز المواطنين للسكن في الشقق بما يخفف الأعباء على الدولة. لا يمكن أن تستمر الحكومة بتولي مسؤولية السكن للمواطنين بموجب الآليات القديمة بعد إرتفاع أعداد السكان، وتدني الإيرادات السيادية، وبعد أن تأكدت المصاعب البنيوية المتعلقة بتوفير الخدمات مثل تمديدات الكهرباء والمياه والطرق وغير ذلك من ركائز البنية التحتية.
هناك أهمية للمراجعة العقلانية حيث مهما بلغت الأموال المخصصة للإسكان فإنها لن تمكن من مواجهة متطلبات السكن بموجب المعايير والآليات المتبعة في الوقت الراهن.