عامر ذياب التميمي- البيت الخليجي-
تتناول دوريات علمية جادة إحتمالات حدوث ركود اقتصادي في الدول الصناعية الرئيسية وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين وألمانيا. ويثيرُ ارتفاع العوائد على السندات طويلة الأجل مخاوف من إمكانية ذلك الركود بالإضافة إلى قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض سعر الخصم 25 نقطة.
ثمة احتمالات تشير إلى إقدام الاحتياطي الفيدرالي على إجراء المزيد من التخفيض في سعر الخصم. يضاف إلى ذلك مؤشرات تؤكد أن معدل النمو الاقتصادي في الصين قد لا يتجاوز الستة في المئة هذا العام وهو معدل يعتبر متواضعاً بالنسبة للاقتصاد الصيني.
كل هذه المؤشرات توحي بأن الاقتصادات الرئيسية تتجه نحو التبريد بعد أن انخفضت حرارة وحيوية النمو. لا شك أن هناك عوامل أخرى قد تساعد على حدوث الركود منها استمرار شيخوخة المجتمعات في البلدان الصناعية الرئيسية في أوربا الغربية واليابان والصين والولايات المتحدة وتراجع معدلات النمو السكاني بما يمثل إمكانيات حقيقية لتراجع مستويات الاستهلاك، السلعي والخدمي، حيث أن كبار السن، عادة، لا يتوقون لإنفاق الأموال على سلع وخدمات قد يعتبرونها غير أساسية وملحة في حياتهم. كما أن هؤلاء الكبار لا يهتمون باقتناء المساكن والاقتراض. ويمكن إعتبار اليابان نموذجاً جيداً لشيخوخة المجتمعات الإنسانية، وما يعني ذلك من تراجع الإنفاق الاستهلاكي وتباطؤ النمو الاقتصادي حيث لا تزال البلاد تعاني من ركود مزمن منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.
لكن ماذا يعني هذا الركود المحتمل لإقتصادات بلدان الخليج؟
تعتمد بلدان المنطقة على إيراداتها من مبيعات النفط، وإذا تراجعت هذه المبيعات بفعل انخفاض الطلب في البلدان المستهلكة الرئيسية فإن ذلك نذير هام بحدوث انخفاض في إيرادات الخزينة العامة وعجوزات في ميزانيات بلدان الخليج، خصوصاً إذا لم يتم ضبط إيقاع الإنفاق العام.
السؤال الكبير: هل يمكن لحكومات بلدان الخليج أن تراجع فلسفة الإنفاق وتعزز قدرتها على الترشيد والحيلولة دون تحقيق عجوزات كبيرة في موازناتها؟ لن يكون الأمر يسيراً، تواجه هذه البلدان نمواً سكانياً كبيراً وبمعدلات تصل من 2.5 إلى 3.0 في المئة ما يعني تخصيص أموال هامة للإنفاق الجاري لمواجهة متطلبات التعليم والرعاية الصحية والدعومات الأساسية.
وإذا كانت مجتمعات الخليج متسارعة النمو السكاني والتي تشهد إرتفاع أعداد صغار السن والشباب فإن كبار السن، أيضا، يتزايدون ويحملون الدول المعنية أعباء الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد وغيرها من أعباء أساسية. لن تتمكن دول الخليج من ضبط موازناتها العامة إذا لم تتحرر من آليات وأدوات الإقتصاد الريعي وتعزز دور القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية واعتماد برامج تعليمية ملائمة تمكن من الإرتقاء بدور العمالة الوطنية في سوق العمل يمكن من تخفيف الاعتماد على العمالة الأجنبية الوافدة.
خلال الربع الأول من هذا العام توقع مراقبون اقتصاديون بأن يكون معدل النمو الاقتصادي في السعودية بحدود 1.8 في المئة بعد أن بلغ 2.2 في المئة عام 2018. دولة الإمارات ربما يبلغ معدل النمو 3.0 في المئة بعد أن بلغ 1.8 في المئة في عام 2018. لكن هذا التحسن لابد أن يكون مشروطاً بتحسن أداء القطاعات غير النفطية. أما البحرين فقد يصل معدل النمو 1.8 في المئة في العام الجاري. الكويت التي زادت الإنفاق العام بنسبة 4.7 في المئة بما يحسن من أداء القطاعات غير النفطية إلى درجة ما فقد يبلغ معدل النمو في العام الجاري 1.6 في المئة. أما عمان فلن يتعدى المعدل 1.2 في المئة، كما يرى المراقبون، في حين يتوقع أن يصل معدل النمو في قطر 3 في المئة خلال العام الجاري.
لا شك أن هذه المعدلات قد لا تتحقق وربما تصل إلى مستويات أفضل وذلك إعتماداً على السياسات الحكومية وأوضاع أسواق النفط في الشهور القادمة من هذا العام. تطوير مساهمة القطاعات غير النفطية يظل من الأمور الأساسية لتحديث بنية الإقتصادات الخليجية وتحريرها من الإعتماد المزمن على إيرادات القطاع النفطي والإنفاق العام الجاري والرأسمالي ولذلك فإن الركود الإقتصادي إذا ما حدث في البلدان المستهلكة الرئيسية لابد أن تتضح تبعاته على إقتصاديات دول الخليج بشكل سريع بما قد يعطل مشاريع التنمية التي إعتمدت خلال السنوات المنصرمة.
تظل الاقتصادات الخليجية، ولأمد طويل، رهينة المتغيرات في الاقتصاد العالمي وما ينتج عن تلك المتغيرات من أثار على سوق النفط. هذه الاقتصادات أسيرة لبرامج الإنفاق العام الحكومي حيث يعمل غالبية المواطنين في الدوائر والمؤسسات الحكومية والعامة المملوكة من الدولة.
كما أن القطاع الخاص يعتمد على جني إيراداته من تعامله مع الحكومة من خلال مناقصات الأعمال أو عمليات الشراء الحكومية. لذلك فإن انخفاض أسعار النفط، إذا ما تعقدت الأوضاع الاقتصادية في البلدان المستهلكة الرئيسية، سوف يعني حتمية تراجع مخصصات الإنفاق العام في مجالات عديدة أو تعطيل عمليات توظيف المواطنين في الدوائر والمؤسسات العامة. قد تتمكن الحكومات من ترشيد إنفاقها من خلال آليات متعددة ولكن ذلك لابد أن ينعكس على القدرات الشرائية أو الإنفاق الرأسمالي. وعندما تكون نسبة الإنفاق على الرواتب والأجور والدعومات تتجاوز السبعين في المئة في عدد من بلدان الخليج فإن ذلك يبين المصاعب وعدم المرونة في الأوضاع الإقتصادية.
وحتى تكون هذه الاقتصادات أكثر مرونة في تعاطيها مع تطورات الإقتصاد العالمي يتعين إحداث متغيرات هامة في الإستراتيجيات المستقبلية. هناك أهمية لتحرير العديد من الأنشطة من ملكية الحكومة ودفع القطاع الخاص ليلعب دوراً أساسياً في الحياة الإقتصادية وتخفيض تعاملاته مع الجهات الحكومية. كما يجب أن يتطور القطاع النفطي بما يعزز الصناعات النفطية وتوابعها وتمكين هذه الصناعات من تصدير منتجاتها إلى العديد من البلدان المستهلكة. أي أن لا يكون تصدير النفط الخام طاغياً على أداء القطاع النفطي.
يتطلب التعامل مع الأزمات الإقتصادية كفاءة بشرية. هكذا تصبح التنمية البشرية عنواناً أساسياً للإصلاح والتحديث الاقتصاديين في دول الخليج. قطعت الدول مرحلة مهمة في التعليم خلال السنوات السبعين الماضية وتخرج عشرات الآلاف من المواطنين من جامعات وطنية وأجنبية في مختلف التخصصات لكن النمو السكاني المتسارع يمثل تحدياً للتنمية البشرية في ظل متغيرات تقنية واقتصادية متواترة. مقابل ذلك اعتمدت بلدان الخليج منذ بداية عصر النفط على عمالة وافدة وأصبحت تمثل أكثر من ثلثي السكان في بلدان مثل الإمارات وقطر والكويت ونسب مهمة من السكان في البحرين وعمان والسعودية.
وتتسم هذه العمالة الوافدة بارتفاع نسبة العمالة الهامشية متدنية التعليم والمهنية. هذا الثقل الديمغرافي لابد أن تكون له تكاليفه الاقتصادية والاجتماعية ولن تتمكن بلدان الخليج من تعديل التركيبة السكانية دون إحداث متغيرات نوعية في التعليم ورفع مساهمة المواطنين في سوق العمل. ربما تدفع التراجعات في أسواق النفط وانخفاض الإيرادات إلى بذل جهود جادة من أجل رفع وتيرة التنمية البشرية ومراجعة السياسات المالية التي عززت الاتكالية والاعتماد الكبير على الإنفاق العام. يظل الحديث عن الإصلاح الإقتصادي غير ذي معنى دون تبني سياسات مالية من قبل الحكومات تهدف إلى صياغة دور للدولة يختلف عن ما ساد طوال العقود السبعة الماضية. وقد يكون من المفيد للسلطات المعنية أن تبدأ في تلك الإصلاحات والتعديلات قبل أن تؤدي إلى صدمات إجتماعية وسياسية.