صباح نعوش- البيت الخليجي-
يتّسم الميزان التجاري في قطر بالفائض رغم ضخامة الواردات الناجمة عن تنظيم كأس العالم لكرة القدم، في حين تعاني جميع الحسابات الأخرى للميزان الجاري من عجز كبير ومزمن. رغم ذلك، تحقق مالية قطر الخارجية نتائج إيجابية بسبب أهمية الفائض التجاري، وسيرتفع هذا الفائض في السنة الجارية والسنوات اللاحقة بسبب تصاعد أسعار الغاز الطبيعي الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويبلغ فائض قطر نحو 98.7 مليار ريال في 2020 (الدولار يعادل 3.64 ريال). كما سجل تحسنًا في الربع الثالث من عام 2021 مقارنة بالربع الثالث من العام السابق. والفائض ضروري لتمويل عجز الحسابات الأخرى في ميزان المدفوعات، لأنه المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي.
تحتل قطر مكانة عالمية مرموقة في تصدير الغاز الطبيعي المسال. فالصادرات القطرية تمثل أكثر من خُمس الصادرات العالمية، ولديها احتياطي مؤكد قدره 24 ترليون متر مكعب، يعادل احتياطي جميع البلدان العربية.
في 2020 بلغت الصادرات القطرية الكلية 187.4 مليار ريال. منها 153.3 مليار ريال من الغاز الطبيعي والنفط، و17.9 مليار ريال مواد كيماوية، ويحتوي الباقي على السلع المعاد تصديرها كمعدات النقل.
قطر كغيرها من بلدان الخليج شهدت هبوطاً حاداً لصادراتها في عام 2020 حيث انخفضت بنسبة 29.4% مقارنة بالعام السابق. وتستحوذ أربع دول آسيوية غير عربية على ثلثي صادرات الغاز القطري وهي اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية. أما الصادرات إلى دول مجلس التعاون فقد شهدت تراجعاً كبيراً بسبب الحصار، وهي انتقلت من 15.5 مليار ريال في 2016 (قبل الحصار) إلى 6.4 مليار ريال في 2020 (قبل المصالحة).
تتألف الواردات الكلية من مختلف أصناف المواد الغذائية والأدوات الكهربائية ومعدات النقل والمواد الإنشائية والكيماوية. وهنا أيضا تحتل البلدان الآسيوية غير العربية مركز الصدارة وتستحوذ على ثلثي الواردات. علماً بأن الولايات المتحدة تسجل المرتبة الأولى تليها الصين ثم بريطانيا فالهند.
أما الواردات من دول مجلس التعاون، فهي كالصادرات سجلت هبوطاً حاداً بسبب الحصار، حيث انتقلت من 18.7 مليار ريال في 2016 إلى 3.1 مليار ريال في 2020، وتكاد تقتصر على عُمان.
عجز حساب الخدمات
تتناول الخدمات بالدرجة الأولى السفر والنقل. يعاني هذا الحساب من عجز مزمن بمبلغ 55.5 مليار ريال في 2020. ولم يطرأ عليه تغيير مهم طيلة السنوات الخمس المنصرمة.
قطر من هذه الزاوية لا تختلف عن بقية بلدان مجلس التعاون باستثناء البحرين التي تحقق فائضاً في خدماتها لأهمية إيراداتها السياحية.
عجز حساب الدخل
يتكون الجانب الدائن لهذا الحساب من الإيرادات التي تحصل عليها الدولة من استثماراتها الخارجية. في عام 2020 بلغت هذه الإيرادات 38.1 مليار ريال. وتتأتى بالدرجة الأولى من جهاز قطر للاستثمار. كما تبلغ أصول هذا الصندوق السيادي حوالي 450 مليار دولار، وهو بذلك يحتل المرتبة العربية الرابعة والعالمية التاسعة. للصندوق أيضًا استثمارات في عدة بلدان ويملك أسهماً في مؤسسات منها باركليز وفولكسفاكن ورويال دوتش ومطار هيثرو وتوتال، كما ويمتلك نادي باريس سان جيرمان.
أما الجانب المدين فيتعلق بإيرادات الاستثمارات المحولة من قطر إلى الخارج. في 2020 بلغت هذه الإيرادات 49.2 مليار ريال.
يعاني حساب الدخل من عجز مزمن بلغ 11.1 مليار ريال. كما نلاحظ أن وباء كورونا لم يقد إلى هبوط الدخل سواء المتحقق لقطر (الدائن) أو المستحق عليها (المدين)، بل ارتفع في الحالتين. الأمر الذي يشير إلى تزايد الاستثمارات رغم الوباء. ولا يقتصر هذا الارتفاع على قطر بل شمل عدة صناديق سيادية في العالم بسبب التسارع لشراء الأسهم المنهارة قيمها. ونلاحظ أيضاً أن الإيرادات المتأتية من صندوق قطر للاستثمار أقل من الإيرادات المستحقة للاستثمارات الأجنبية العاملة في البلد.
عجز حساب التحويلات الجارية
يتضمن الجانب الدائن التحويلات الداخلة إلى قطر والبالغة 5.4 مليار دولار في 2020، أما الجانب المدين فيتضمن التحويلات إلى خارج قطر وقدرها 50.7 مليار ريال. هذا ويحتوي الجانب المدين على فقرتين أساسيتين يجدر التنبه لهما:
الفقرة الأولى والأهم وهي تحويلات العمال الأجانب العاملين في قطر البالغة 38.6 مليار ريال. وحتى نعي أهمية ذلك فإنه على سبيل المثال، يتعين على الحكومة رصد وجمع صادرات قطر لمدة شهرين كاملين لتمويل تحويلات هؤلاء العمال إلى الخارج. صحيح أن هذه التحويلات شهدت هبوطاً في عام 2020 قياساً بالعام السابق بسبب تداعيات جائحة كورونا التي أدت إلى تراجع النشاط العقاري وقطاع النقل، لكن التحويلات عادت إلى الارتفاع بسبب تخفيف القيود الصحية وبسبب حاجة قطر للعمالة الأجنبية لإكمال الأشغال المتعلقة بتنظيم كأس العالم لكرة القدم.
ويصل عدد العمال الأجانب في قطر إلى نحو 2.6 مليون شخص (87% من السكان)، بمعنى أن المعدل العام للتحويل الخارجي الشهري للعامل الواحد يبلغ نحو 340 دولارًا.
أما الفقرة الثانية من حساب المدين فتتضمن بالمقام الأول المساعدات بدون مقابل (التبرعات) التي يمنحها القطريون للدول والمؤسسات الأجنبية.
حساب التحويلات الجارية كحساب الدخل وحساب الخدمات يسجل عجزاً مزمناً بلغ 45.2 مليار ريال في 2020 مقابل 60.4 مليار ريال في العام السابق.
وللأسباب المذكورة أعلاه يعود عجز هذا الحساب إلى التصاعد، فانتقل من 11.3 مليار ريال في الربع الثالث من عام 2020 إلى 13.2 مليار ريال في الربع الثالث من عام 2021.
الحساب الجاري
حاصل جمع الميزان التجاري وحساب الخدمات وحساب الدخل وحساب التحويلات الجارية يساوي الحساب الجاري.
في عام 2019 حقق فائضاً قدره 15.5 مليار ريال ثم سجل في 2020 عجزاً قدره 13.1 مليار ريال. بمعنى أن الحساب الجاري يكون في فائضاً عندما يكون فائض الميزان التجاري مرتفعًا. ويسجل عجزاً إذا كان هذه الفائض منخفضًا. في الربع الثالث من عام 2021 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ارتفع فائض الميزان التجاري وانخفض عجز حساب الدخل. ولكن ارتفع عجز حساب الخدمات وحساب التحويلات الجارية. بالنتيجة النهائية، انتقل الميزان الجاري خلال هذه الفترة من عجز إلى فائض. وعلى هذا الأساس، يلعب الميزان الجاري دوراً كبيراً في تحديد حالة ميزان المدفوعات وبالتالي حجم الاحتياطي النقدي.
فائض ميزان المدفوعات
تتناول الحسابات المالية والرأسمالية التحويلات من وإلى الدولة كالاستثمارات المباشرة واستثمارات المحفظة والأسهم والسندات والقروض وحقوق الملكية الفكرية. تتسم هذه الحسابات في قطر بالفائض البالغ 19.7 مليار ريال في 2020.
وميزان المدفوعات(حاصل جمع الميزان الجاري والحسابات المالية والرأسمالية إضافة إلى مبالغ الخطأ والسهو) حقّق فائضاً قدره 1.8 مليار ريال في 2020. وهذا المبلغ هو الاحتياطي النقدي السنوي الذي يضاف إلى الاحتياطي النقدي المتراكم لدى البنك المركزي. حققت قطر هذه النتيجة الإيجابية في ميزان المدفوعات رغم تداعيات كورونا لكنها جاءت على حساب اللجوء المتزايد للقروض، فارتفعت المديونية العامة.
في نهاية عام 2021 وصلت ديون قطر إلى 383 مليار ريال، وهكذا، انتقلت الديون من 12% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015 إلى 33% منه في عام 2021. في المقابل، يصرح صندوق النقد الدولي (تقرير مشاورات المادة الرابعة) بأن هذه الديون انتقلت خلال هذه الفترة من 88% إلى 98% من الناتج المحلي الإجمالي.
العوامل الثلاثة المؤثرة
تؤثر العوامل الثلاثة التالية على المالية الخارجية القطرية:
• كأس العالم لكرة القدم
• نهاية الحصار الخليجي
• السياسة الروسية
ويختلف اتجاه التأثير وكذلك حجمه حسب كل عامل.
أولاً: تنظيم كاس العالم:
لهذا العامل تأثير سلبي من جهة وإيجابي من جهة أخرى.
يستمر التأثير السلبي حتى نهاية عام 2022 وتشير البيانات الرسمية إلى أن تنظيم هذا الحدث الرياضي يكلف مبلغاً كلياً قدره 200 مليار دولار. خصوصاً وأن قطر استوردت مختلف المعدات والمواد لتنفيذ المشاريع اللازمة. وهو ما يؤدي إلى تقليص فائض الميزان التجاري. كما تتطلب الأشغال استثمارات وعمالة أجنبية. بالتالي، يرتفع الجانب المدين لحساب الدخل وحساب التحويلات الجارية.
يتجاوز هذا المبلغ بكثير المبالغ التي خصصتها البلدان الأخرى لتنظيم البطولة العالمية، بل ويعادل على الأقل أربعة أضعاف المبالغ المخصصة لتنظيم بطولة العالم في فرنسا وألمانيا وجنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا مجتمعة.
قبالة ذلك، من المتوقع أن تكون الإيرادات المتوقعة في قطر ضئيلة مقارنة بالاعتمادات المذكورة. أما الجانب الإيجابي فيخص السنوات اللاحقة للبطولة وما يتعلق بتحسن القطاع السياحي وزيادة الاستثمارات الأجنبية. عندئذ سيهبط عجز حساب الخدمات وسيرتفع فائض الحساب المالي والرأسمالي في ميزان المدفوعات.
ومن زاوية أخرى لا تقتصر التكلفة على بناء الملاعب الرياضية بل تشمل أيضأ ميادين عديدة، خاصة الموانئ والمطارات والمستشفيات والطرق والفنادق. وبالتالي، لا تتوقف الإيرادات على عوائد الملاعب والفنادق والمطاعم خلال فترة البطولة، بل تشمل أيضاً المنافع الاقتصادية المترتبة على تحسن أداء المؤسسات الأخرى في الفترة اللاحقة.
ثانياً: نهاية الحصار:
فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً ضد قطر استغرق أكثر من ثلاث سنوات، وانتهى بالمصالحة في قمة العلا المنعقدة بتاريخ 5 يناير/كانون الثاني 2021. يتمخض عن هذا التطور نتائج إيجابية لجميع دول المنطقة. فبعد مضي أكثر من سنة على هذا المؤتمر، يتضح خطأ المبالغة في تقدير هذا التأثير الإيجابي لأن المبادلات الخليجية القطرية ضعيفة أساساً. ولأن قطر باتت تعتمد على نفسها في إنتاج بعض المواد الغذائية كالحليب بدلاً من استيرادها من السعودية. ولكن في جميع الحالات إنهاء الحصار بقرار رسمي أفضل للمالية الخارجية القطرية من استمراره.
ثالثاً: السياسة الروسية:
تحسنت المالية الخارجية القطرية بفعل السياسة الروسية من زاويتين: الزاوية الأولى أنه واعتباراً من النصف الثاني من العام المنصرم 2021 ارتفع الطلب على الغاز الطبيعي المسال لأسباب صناعية وبيئية. استغلت روسيا هذا الوضع فرفعت أسعار الغاز خاصة في الربع الرابع من العام الماضي. بطبيعة الحال كلما ارتفع سعر الغاز تحسنت مالية قطر الداخلية والخارجية.
الزاوية الثانية ترتبط بغزو روسيا لأوكرانيا، وما تسبب فيه من فرض عقوبات أدت إلى استمرار ارتفاع أسعار الغاز والنفط من جهة واللجوء إلى قطر لزيادة إنتاجها من جهة أخرى.
تعاني ميزانية قطر من عجز لعدة سنوات ماضية. في حين يحقق ميزان المدفوعات فائضاً ازداد حجمه في العام المنصرم. ويتأتى بالدرجة الأولى من مبيعات الغاز الطبيعي وإيرادات جهاز قطر للاستثمار. من المتوقع أن يشهد الحساب الختامي لميزانية السنة الحالية هبوط العجز بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي قياساً بالسعر الذي اعتمدت عليه تقديرات إيرادات الميزانية. وقد تحقق الدولة فائضاً مالياً في السنة القادمة نظراً لإنجاز المشاريع اللازمة لاستضافة بطولة كأس العالم والتي تمثل حالياً ثلث نفقات الدولة. وهكذا سيرتفع الاحتياطي النقدي فتتحسن المالية الخارجية. وسيقود تحسن الميزانية العامة وميزان المدفوعات إلى تراجع الديون العامة.