صباح نعوش- البيت الخليجي-
تزايد عدد وحجم الصناديق السيادية الإماراتية خلال العقدين المنصرمين. وأفضى هذا التطور إلى اعتماد السلطة المركزية والسلطات المحلية على صناديقها في تمويل نفقاتها. ولما كان الهدف تحقيق أكبر عائد ممكن، برزت مشكلة ترتبط بكيفية إدارة المخاطر من جهة، واستغلال فرص الاستثمار من جهة أخرى. واتخذت هذه المشكلة أهمية كبرى خاصة بعد تدهور قيم الأسهم في عام 2008 بسبب الأزمة المالية العالمية وفي عام 2020 بسبب تداعيات كورونا. من هذا الباب نستخلص سياستين مختلفتين للصناديق الإماراتية: سياسة أبو ظبي وسياسة دبي.
تباين السياسات المالية
تختلف مالية حكومات الإمارات اختلافاً كبيراً خاصة من زاوية الإيرادات. ويعود هذا الوضع إلى عاملين: أولهما النفط وثانيهما الصندوق السيادي.
ففي الشارقة لا تتجاوز عوائد النفط 1% من إيرادات الإمارة وتشكل الإيرادات الرأسمالية التي تشمل الصندوق 14%. كما تعتمد الشارقة بالدرجة الأولى على الرسوم والضرائب في تمويل نفقاتها.
وفي دبي تتعادل إيراداتها النفطية مع إيرادات صندوقها أي 6% لكل منهما، فـ 88% من إيرادات هذه الإمارة تتأتى من الرسوم والضرائب، ويلاحظ أن مساهمة الصندوق في ميزانية الإمارة ضعيفة مقارنة بحجمه. ويعود السبب الأساس إلى استخدام الأرباح في تمويل الأصول. الأمر الذي يفسر التحسن المستمر لهذه الأصول ويفسر أيضاً ارتفاع العجز المالي رغم ضخامة الصندوق.
أما الجزء الأهم من إيرادات ميزانية أبو ظبي فيتأتى من العوائد النفطية البالغة 52% من إيراداتها الكلية في حين أن إيراداتها الرأسمالية تصل إلى 40% من إيراداتها الكلية.
ولا يتوقف الاختلاف المالي بين الإمارات عند بنية الميزانية بالمفهوم الوارد أعلاه، بل يشمل كذلك حجم إيرادات الصناديق. لا توجد حول هذه النقطة إحصاءات رسمية متكاملة لكن يمكن التوصل إلى نتائج تقريبية إذا افترضنا بأن الإيرادات الإجمالية لكل صندوق تعادل 19% من أصوله، واخترنا هذه النسبة لأنها تمثل المعدل السنوي العام لإيرادات مؤسسة دبي.
عندئذ تصبح إيرادات صندوق الشارقة 381 مليون دولار في عام 2021، ويرتفع المبلغ في صندوق دبي إلى 57 مليار دولار ، ليصل في صناديق أبو ظبي إلى 193 مليار دولار. هنا يجب التأكيد على أن هذه المبالغ التقريبية إجمالية ولا تمثل إطلاقاً الأرباح الصافية.
من ناحية أخرى، تراجعت أصول جهاز أبو ظبي للاستثمار من 745 مليار دولار في عام 2019 إلى 697 مليار دولار في عام 2021. وبالعكس ارتفعت أصول مؤسسة دبي من 239 مليار دولار إلى 302 مليار دولار.
هنالك عدة أسباب أدت إلى هذين الاتجاهين.
تعتمد مالية أبو ظبي كما ذكرنا على العوائد النفطية بالدرجة الأولى والتي شهدت خلال تلك الفترة هبوطاً حاداً بسبب تداعيات كورونا، وبالتالي تضطر الإمارة إلى السحب من صندوقها لتعويض الخسائر النفطية. كما تطبق أبو ظبي منذ ثلاثة عقود “السياسة الصفرية للعجز” التي تعني تدخل جهاز أبو ظبي للاستثمار لتعويض أي نقص يحدث في العوائد النفطية، وبذلك تحاول الإمارة الحد من اللجوء إلى القروض الخارجية (رؤية أبو ظبي 2030. الصفحة 57).
صحيح أن الفترة الحالية تشهد ارتفاعاً في سعر الخام، لكن لن يقود هذا الارتفاع إلى زيادة أصول صناديق أبو ظبي إلا إذا اتسم بالاستقرار.
إذن، هنالك اختلاف واضح بين الإمارتين في كيفية التصدي للعجز المالي، فجرت العادة في دبي على اللجوء إلى القروض الخارجية. وهو أمر أدى إلى نتيجتين:
النتيجة الأولى: تفاقم المديونية الخارجية التي باتت تشكل سمة أساسية في مالية دبي. ولا توجد إحصاءات رسمية حول هذه الديون لكن حسب وكالة ستاندرد آند بورز بلغت هذه الديون 80 مليار دولار، في حين قدرت وزارة الاقتصاد الفرنسية ديون دبي بمبلغ 190 مليار دولار.
أما النتيجة الثانية: فهي ارتفاع أصول مؤسسة دبي. فنسبة الإيرادات إلى الأصول في الصندوق تفوق سعر الفائدة في القروض، لذلك تفضل دبي الاستدانة بدلاً من السحب من الصندوق.
لكن هذا التحليل لا يعني أن أبو ظبي غير مدينة. إذ قدرت ديونها الخارجية بمبلغ 40 مليار دولار، وهي ترتفع سنوياً: 14% في عام 2020 مقارنة بالعام السابق.
سماتها
الإمارات هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمنح الحق للسلطات المحلية في امتلاك ثروة سيادية. ويعود هذا الوضع إلى شكل الدولة الاتحادي. لذلك تنص المادة 23 من الدستور على ما يلي: “تعتبر الثروات والموارد الطبيعية في كل إمارة مملوكة ملكية عامة لتلك الإمارة….”.
تعددها: الإمارات الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك سبعة صناديق سيادية. في حين لكل دولة خليجية صندوق واحد فقط. كما نلاحظ أن إمارة أبو ظبي تملك لوحدها الصناديق الثلاثة الأولى المذكورة في الجدول.
حجمها: تبلغ أصول صناديق الإمارات 1402.5 مليار دولار، وبذلك تحتل الدولة المرتبة العربية الأولى.
أهمية أبو ظبي: تبلغ أصول صناديق أبو ظبي 1019.8 مليار دولار. وتستحوذ هذه الإمارة إذاً على ثلاثة أرباع الأصول الإماراتية. وبهذا المعنى تملك أبو ظبي أكبر الصناديق في دول الخليج.
يحتل جهاز أبو ظبي للاستثمار من حيث حجمه المرتبة العالمية الرابعة بعد الصندوق النرويجي والمؤسسة الصينية والصندوق الكويتي.
المكانة العالمية: تشكل صناديق الإمارات 46.4% من أصول الصناديق الخليجية و14.7% من أصول الصناديق العالمية.
وتستثمر في أكثر من خمسين دولة في مختلف القارات. وتنصب استثماراتها الخارجية بالدرجة الأولى على الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. لكنها تهتم كذلك بدول أخرى كروسيا. ورغم تصويت الإمارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار إدانة احتلال أوكرانيا إلا أن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والإمارات لا تزال مستمرة ومتميزة وتعتبر صناديق الإمارات أكبر مستثمر خليجي في روسيا. كما أن الإمارات أكبر شريك تجاري عربي لروسيا. ولا توجد لحد الآن أية نية إماراتية في فرض عقوبات ضد موسكو.
الدور الاقتصادي: تلعب الصناديق السيادية دوراً اقتصادياً تختلف أهميته حسب الإمارة. ففي الشارقة تبلغ أصول الصندوق 7% من الناتج المحلي الإجمالي. بمعنى أن أهميته الاقتصادية ضعيفة نسبيًا. وتصح هذه الملاحظة على الفجيرة أيضاً حيث تبلغ أصول صندوقها 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما في دبي فتصل أصول صندوقها إلى 256% من الناتج المحلي الإجمالي للإمارة. الأمر الذي يشير إلى أهميته الاقتصادية القصوى. وترتفع النسبة في أبو ظبي إلى 409%. وبهذا الصدد تحتل هذه الإمارة المرتبة العالمية الثانية بعد الكويت مباشرة.
حصة الفرد: حاصل قسمة أصول الصناديق على عدد سكان الإمارات البالغ 9.5 مليون نسمة يساوي معدل حصة الفرد الواحد في هذه الصناديق أي 147 ألف دولار. مقابل 126 ألف دولار في قطر و171 ألف دولار في الكويت و248 ألف دولار في النرويج. لكن ملكية هذه الصناديق ليست اتحادية (باستثناء جهاز الإمارات للاستثمار). وعلى هذا الأساس وضعنا المعادلة التالية لحساب حصة الفرد في كل إمارة: (أصول صندوق الإمارة ÷ عدد سكانها) + (أصول جهاز الإمارات للاستثمار ÷ عدد سكان الدولة). فتوصلنا إلى النتيجة التالية: 99 ألف دولار في دبي مقابل 348 ألف دولار في أبو ظبي. وبذلك تسجل العاصمة أعلى حصة في العالم. وأما إذا اقتصر الحساب على المواطنين فقط عندئذ يتضاعف المبلغ في أبو ظبي خمس مرات وفي دبي عشر مرات.
الشفافية: يلتزم أعضاء المنتدى الدولي لصناديق الثروة السيادية باحترام مبادئ سانتياغو التي تهدف إلى الشفافية والتعريف بالأنشطة الاستثمارية والاهتمام بالوضوح في العمليات والأهداف. ومن بين سبعة صناديق إماراتية لم ينتم إلى هذا المنتدى سوى جهاز أبو ظبي للاستثمار وشركة مبادلة.
يتبين من هذه السمات أن قوة صناديق الإمارات تكمن في ضخامة أصولها المستثمرة في عدد كبير من بلدان العالم وفي عدة ميادين. فقيمة أصول جهاز أبو ظبي لوحدها تعادل الناتج المحلي الإجمالي لجميع الدول العربية في أفريقيا.
حسابات صندوق دبي
خلال الفترة بين 2016 و2020 حقق صندوق دبي إيراداً معدله السنوي 53 مليار دولار أي 19% من أصوله. وهذه النسبة تعادل تقريباً النسب التي حققتها الصناديق السيادية على المستوى العالمي.
ولكن لابد من ملاحظتين حول هذه الإيرادات:
الملاحظة الأولى: تتعلق بانخفاض علاقتها بالأصول، فقد انتقلت من 25% في بداية الفترة لتصل إلى 12% في نهايتها. يلعب بلا شك الركود الاقتصادي دوراً في هذه النتيجة السلبية لكن ذلك لا يلغي مسؤولية إدارة الصندوق.
والملاحظة الثانية: تتعلق بالفرق الشاسع بين الإيرادات والأرباح. فلا بد من طرح التكاليف للوصول إلى النتيجة الحسابية النهائية.
في عام 2019 بلغت الإيرادات الإجمالية 62.1 مليار دولار والتكاليف 55.3 مليار دولار. وبالتالي تصبح النتيجة النهائية ربحاً بمبلغ 6.8 مليار دولار. أما في عام 2020 فقد هبطت الإيرادات الإجمالية لتصل إلى 37.0 مليار دولار. أما التكاليف فقد بلغت 41.3 مليار دولار. بمعنى أن صندوق دبي سجل خسارة قدرها 4.3 مليار دولار.
هبطت الإيرادات نتيجة تفاعل عاملين: السياسة الاستثمارية للصندوق وتداعيات كورونا.
فصندوق دبي لا يستثمر في محفظة الدخل الثابت (سندات الحكومات الأجنبية وأذونات الخزينة) وذلك على خلاف جهاز أبو ظبي. بل أن نصف استثمارات دبي تذهب في الأسهم الحكومية والنصف الآخر في الاستثمارات البديلة (كالعقارات والبنية التحتية). واختار صندوق دبي هذه السياسة لأن العائد المالي من الاستثمار الثابت ضئيل مقارنة بالاستثمارات الأخرى. ولكن في حالة الأزمات تهبط قيم الأسهم فتنخفض الإيرادات والأرباح. وهذا ما حدث في عام 2020 نتيجة تداعيات كورونا خاصة في ميدان النقل. وهكذا تراجعت إيرادات الصندوق بنسبة عالية قدرها 40.3% مقارنة بعام 2019.
لننظر إلى هذه النتيجة السلبية من زاوية أخرى. حسب البيانات الصادرة عن المنتدى الدولي للصناديق السيادية لم يقد كورونا إلى تراجع حجم استثمارات الصناديق السيادية في العالم بل بالعكس تمامًا. ففي عام 2019 بلغت هذه الاستثمارات 35.9 مليار دولار. وارتفعت إلى 65.9 مليار دولار في عام 2020. فقد أدى الوباء إلى هبوط قيم الأسهم في عدة ميادين. فتسارعت إليها الصناديق.
ولما كانت الإيرادات الإجمالية لمؤسسة دبي انخفضت بنسبة عالية في عام 2020. فأن ذلك يعني ببساطة بأن هذا الصندوق لم يواكب التطور ولم يستطع استغلال الفرصة، وذلك على عكس جهاز أبو ظبي الذي حقق ربحًا.
كما يجد هذا الاستنتاج دعماً له في المقارنة بين مؤسسة دبي وشركة مبادلة. خلال الفترة الأخيرة شهدت أصول الصندوقين ارتفاعاً مستمرًا. كما يتشابه الصندوقان في عدم الاستثمار في محفظة الدخل الثابت. لكن النتائج المتحققة في عام 2020 مختلفة تمامًا إذ ارتفعت الإيرادات الإجمالية لمبادلة من 14,4 مليار دولار في عام 2019 إلى 19.6 مليار دولار في عام 2020، في حين تراجعت إيرادات صندوق دبي كما رأينا.
أما في النصف الأول من عام 2021 فقد تحسنت نسبياً المؤشرات الاقتصادية على الصعيد العالمي، وسجلت قطاعات الخدمات المصرفية نتائج إيجابية. لذلك أعلنت مؤسسة دبي ارتفاع إيراداتها وتحقيق أرباح صافية قدرها 1.4 مليار دولار.
في المحصلة، أحرزت الإمارات نجاحاً باهراً في بناء صناديق سيادية عملاقة تلعب دوراً بارزاً على الصعيدين المحلي والعالمي. ولكن هذا النجاح يقتصر على أبو ظبي ودبي. كما أن ثمنه باهظ وهو ارتفاع المديونية الخارجية.