فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
تمنح القراءة الواعية والفهم المتأني للتاريخ، لمن يحسن الإنصات والتعلم، أجراس إنذار لمجتمعه، خصوصًا في فترات تسارع الحوادث، وعصر القرارات المصيرية، والصراع المشتعل بين إمبراطورية غاربة، لا تسعفها قواها على الاستمرار في تصدر العالم، قائدة لنظام دولي قديم، نشأ من رحم الحرب الباردة، ويوشك على التداعي إلى نهاية محتومة، ومركز ثقل دولي بازغ، ينقل القيادة من المحيط الأطلسي إلى شرق آسيا.
المملكة العربية السعودية في وسط هذا التيار مدعوة لوقفة كاملة، وقفة مراجعة قبل أن يحين وقت الاختبار، ومن ثم، حصاد كل السياسات التي قامت ونشأت عليها الدولة، في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، واعتمدت على عناصر قوة ظاهرة، تمثلت أولًا في فائض مالي هائل، وأسباب للقيادة والريادة لمحيطها، تمحورت حول سيطرة المملكة على أقدس الأماكن الدينية الإسلامية، وكان القرن العشرين هو قرن العلو السعودي في الشرق الأوسط، بلا ثمة جدال.
النشأة ارتبطت، بالقوة الغربية المسيطرة، بريطانيا، ثم الولايات المتحدة، وكما فعلت إمارات الخليج كلها، كانت المعاهدات العسكرية، بغرض تأمين الثروات، الدافع التبريري الأول للارتماء في حضن الغرب، ومع إعلان الكيان الصهيوني في 1948، تبدلت المواقع، وأصبحت دول الخليج كلها تحت لافتة "حليف الدرجة الثانية"، إذ إن الكيان الصهيوني كان الولاية الأميركية الواحدة والخمسون بالتعبير الشائع عربيًا، وخاصة مع قيام الثورات العربية في مطلع الخمسينيات، واحتياج الغرب لحليف عسكري متفوق، يستطيع توجيه الضربات إلى القوى العربية الصاعدة في مصر وسوريا، بالنيابة عنه.
القراءة التاريخية لما يجري في المنطقة كلها، ويهدد بالمزيد من تقسيم -المقسم أصلاً- وتفتيته، وصولًا إلى وجود كيان واحد قادر على السيطرة والفعل، تقول إننا سبقنا ومررنا بها، عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، أو تفككه وانهياره، والنظام السعودي، وفي مقدمته ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، لا يبدو إلا نسخة أخرى من العقيد الليبي معمر القذافي، والخطر الذي يواجه المملكة –كدولة ومجتمع- هو مصير ليبيا المقسمة حاليًا.
وكما كان القذافي يغترف من عوائد النفط الليبية، بغير حساب أو مسؤولية، فإن الأمير يبدد الثروة السعودية، بسرعة واستهتار شديدين، وخلال السنوات الأربع الماضية، منذ تسلمه مقاليد الاقتصاد والمالية السعودية، جرى سحب نحو 180 مليار ريال خلال 2016 من الاحتياطي العام، ما أدى إلى تراجعه بنسبة 28%، ليبلغ 474 مليار ريال فقط بنهاية أكتوبر/تشرين الأول 2016، فيما كان نحو 654 مليار ريال نهاية 2015، وطريق الاقتراض الخارجي بدأ، كقطار يمضي في طريقه بلا توقف، فالعجز يجلب الديون، التي تجذب بدورها التدخلات الاقتصادية في شؤون البلد، وتزيد من الارتهان والتبعية.
ومن واقع الأرقام الحكومية المعلنة، حققت المملكة معدلات تضخم مرتفعة، ونسب بطالة بين الشباب غير مسبوقة، رغم كل جهود السعودة، وحقق الاقتصاد خلال عام 2017، نموًا عند 0.2% فقط، وهو واحد من أقل معدلات النمو المسجلة في تاريخ المملكة كله، وارتفعت قيمة الدَّين العام حتى نهاية السنة الماضية، حسب بيانات موازنة 2018، إلى 438 مليار ريال، مقابل 316 مليار ريال نهاية 2016.
وكما أعلن القذافي عن مشروع النهر الليبي العظيم، الذي لم يكن سوى نهر من الأوهام والجنون، اشتهر بهما العقيد، فإن ولي العهد بدأ مشروع "نيوم" السياحي، وأعلن عن تكلفة خيالية، تجاوزت 500 مليار دولار، في وقت تئن الموازنة من تبعات حرب اليمن، وتمويل المغامرات الخارجية للأمير، والدفع لأبواق تنتشر في أغلب العالم العربي، وتلبية مطالب شراء صمت مجمعات السلاح والمال الغربية.
لا تبدو المشاريع الضخمة التي تسيطر على فكر الرجلين متغيرة، رغم مرور الزمن، فولي العهد أيضًا أعلن عن درة مشروعاته وجوهرة أحلامه للمملكة، المشروع النووي، متأثرًا فيما يبدو بإيران، التي تمتلك التكنولوجيا النووية، وربما تستطيع –إن رغبت- ان تمتلك السلاح النووي، وهذا ما يثير ضدها الغرب، فلا تريد الولايات المتحدة أن تمتلك دولة شرق أوسطية سلاحًا نوويًا، باستثناء الكيان الصهيوني بالطبع، والدولة التي تمتلك التكنولوجيا، تستطيع بقرار سيادي امتلاك سلاحها النووي، مثل اليابان أو كوريا الجنوبية، بسبب توافر الكوادر البشرية والمنشآت.
المملكة لا تمتلك بالفعل بنية تكنولوجية، تلائم مشروعًا نوويًا، ولا تتوافر لدينا الكوادر البشرية الوطنية، المؤهلة لتحمل مسؤولية جبارة، في الوقت الراهن، والحل المنطقي يقول إن المملكة يجب أن تخوض الصراع التكنولوجي من بدايته، حتى لو احتاج الأمر لعقدين من الزمان، هذا لو توفرت بالأساس إرادة الصدام مع الغرب، الذي لم ولن يسمح لدولة عربية أن تتحرك بهذه السهولة في طريق كسر احتكار السلاح النووي الصهيوني.
وإذا كان ولي العهد يراهن على الإدارة الأميركية، وبالتحديد الرئيس دونالد ترمب، فإن فترة رئاسته للولايات المتحدة أثبتت أن القرار الأميركي يخرج من مؤسسات الدولة الأميركية، وليس من البيت الأبيض، فمشاريعه التي لا تتفق مع أجندة وزارتي الدفاع والخارجية، يجري إجهاضها على مهل، مثل قرار الخروج من سوريا، أو بناء جدار على حدود المكسيك، فيما لا تمر سوى القرارات التي ترى مؤسسات الحكم أنها مقبولة، وربما هذا ما يفسر خروج وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بتصريح مفاجئ، يقول إنه "لن نسمح للسعودية أن تصبح قوة نووية أو أن تهدد أمن إسرائيل"، تعبيرًا عن سياسة أميركية راسخة، لن يستطيع رئيس تغييرها، لا ترمب ولا غيره.
المشروع النووي يستلزم إرادة حرة، ويتوجب أن يتم بأياد وطنية، يسير على مهل، قد يتعثر حينًا، لكن الرهان حينها سيكون على الأمة، والأمم لا تهزم في معاركها، طالما قررت خوضها، ويكفي للتدليل على ذلك، امتلاك كوريا الشمالية لبرنامج نووي، رغم الفقر والحصار، وكذلك باكستان، فالأموال هنا ليست معيارًا لتحقيق الرغبات الملكية السامية، فللمال حدودًا كما للقوة، ولن يتجاوزها.