(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
"ومِنَ العقول جداوِلٌ وجلامِدٌ ومِنَ النفوس حرائرٌ.. وإماءُ".
أعلنت الهند، في 18 من آيار/ مايو 1974، عن قنبلتها النّوويّة الأولى، الأمر الذي أثار الرعب ورغبة التحدّي عند الجارة والعدوّ الدائم باكستان، خاصّةً وأنّ هذه الخطوة جاءت بعد أقل من ثلاث سنوات فقط من حرب العام 1971. ففي هذا الظرف العصيب، وعبر ظلال ضغط قلّة الإمكانات وشحّ الموارد، أطلق رئيس الوزراء الباكستاني في ذلك الوقت، "ذو الفقار علي بوتو" قنبلته المضادة الأشهر: "حتى لو أكلنا العشب.. يجب أن نمتلك قنبلةً نوويّة".
لخّصت جملة الزعيم الباكستاني، بذكاء بالغ، أسمى تعريف للمشروع/ الحلم الوطني، والمرادف الواضح للقرار المستقلّ والإرادة الحرّة والإيمان، بكلّ ثبات ورسوخ المبدأ والعزم القاطع واليقين، ليكتب الرجل الجملة المتردّدة عبر التاريخ بكلمات قليلة العدد عميقة المعنى والمضمون..فالأمل هو المحرّك الأوّل للشعوب والتحدّيات هي صانعة المجد، والأحلام الوطنية مهما بلغت من الممكن ومن الضروري أن تتحقق على أكتاف الرجال.
بدأ المشروع النووي الباكستاني من دون الصفر تقريبًا، بلد حديث النشأة، كلّها أزمات فوق أزمات، من شعب أغلبه لاجئين شُرّدوا بوحشيّة من شبه القارة الهنديّة إلى مؤسسات دولة في طور التكوين، إلى اقتصاد ضعيف للغاية، إلى حروب مستمرّة مع الهند، وانقسام بنغلاديش.. وفوق كل شيء، اليد الأميركيةّ الخفيّة التي تكفّلت بوضع قائم حديدي في العجلة التي بدأت الدوران لتوّها، انقلاب عسكري في العام 1977 بقيادة الجنرال "ضياء الحقّ" ثمّ إنهاء صفحة الرجل تمامًا بالإعدام في 4 نيسان/ أبريل 1979.
لكن؛ لأنّ "بوتو" كان مترجمًا صادقًا وأمينًا لمخاوف شعبه ومعبرًا عن آماله، فقد استمرت باكستان في مشروعها النّووي، حيث أصبح مشروع نكون أو لا نكون، وتحت رعاية الدكتور "عبد القدير خان". ورغم العوائق الغربيّة والعقوبات المستمرّة، استطاع "خان" أن يصل بالبرنامج النّووي الباكستاني إلى مرحلة الاكتمال، وتمكّنت بلاده في المرحلة ما بين 18 أيلول/ سبتمبر 1986 من القيام بأوّل تفجير نووي تحت سطح الأرض.
وفي آيار 1998، وردًا على تجارب نوويّة هنديّة، ورغم الضغوط ووعود المساعدات الأميركيّة السّخية لمنع "إسلام أباد" من اتّخاذ خطوة مماثلة، أعلنت باكستان عن نجاح تجاربها النّوويّة العلنية الأولى، لتنضمّ رسميًا إلى نادي الدول النّوويّة؛ فجاء الردّ الأميركي سريعًا وبالطريقة المعتادة ذاتها. ففي سيناريو ينافس أفلام هوليوود الخيالية، جرى انقلاب عسكري دبّره "برويز مشرّف" ضد رئيس الوزراء "نواز شريف"، في العام 1999، ثم أعقبته بحملة دوليّة جنونيّة بالغة الحدّة ضد المهندس "خان" بتهم تسريب المعلومات وتبادل الأسرار النّوويّة إلى دول عديدة، وألقت به عاريًا إلى ساحة القضاء.. لكن؛ لأنّ الرجل يُعدّ بطلًا قوميًا بالنسبة إلى مواطنيه، فقد تمّ الاكتفاء بوضعه رهن الإقامة الجبريّة لمدة 5 سنوات، في رسالة شديدة الوضوح والصرامة من واشنطن، تجاه أي دولة تحاول أن تفلت من الطّوق الأميركي.
كلّ واحدة من قصص الفكاك من ربقة التبعيّة لــــ"واشنطن" فيها ما فيها من عبر التحديّات وأثمانها، قرار دولة ما بامتلاك سلاح ردع نووي ليس وعدًا يطلقه رجل على القمّة، ولا هو إنجاز سهل يستطيع إنسان واحد تحقيقه والوصول إليه، ثم هو ليس نقاطًا يربحها سياسي مجانًا أو عبر اتفاقات مع دولة أخرى، إنّها قصّة النحت بالأظافر في صخر العقبات والمشكلات وضد القوى الغربيّة.. رمزيّة البطولة الجماعيّة والتضحية الجماعيّة والفخر الذي ينسب إلى المجتمع كلّه، لا أفرادًا فيه.
القرار الوطني بتدشين برنامج نووي يختلف كثيرًا عن فكرة حيازة سلاح نووي، هو تمامًا كالفارق الهائل بين دخول عصر جديد بسلاح العلم ونور المعرفة، وبين اقتناء سلعة مهما بلغ ثمنها؛ ولأنّ القرار الذي أعلنه وليّ العهد السّعودي بأنّ الرياض ستمتلك قنبلة نوويّة، كان أقرب لمناورة سياسيّة واسعة المدى، جاء التعبير عنها في سياق حوار صحيفة أجنبيّة مع وليّ العهد، وليس عبر خطاب سياسي مسؤول، يعرف قيمة الكلمة ويدرك جيدًا عبء تكلفتها ومخاطرها، ويؤمن أنّ سلاحه الأساسي - إن أراد خوض هذا الطريق الطويل- هو شعبه، وأن إرادة الشعّب وحدها القادرة على أن تتسابق وتتدافع وتشقّ على مجريات الزمن طريقها الموعود، ثابتًا ومتصلًا وعميقًا، وليس طرفًا أجنبيًا، مهما بلغ التحالف أو الارتباط معه.
لا يستطيع عاقل أو صاحب ضمير، اليوم، المجادلة أو التشكيك في أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة مقبلة على أيام صعبة، وأنّها أمام تحدّيات هائلة فرضتها تغييرات مخيفة فرضها وليّ العهد "محمّد بن سلمان" بقرار التطبيع مع الاحتلال، وأنّها ستكون مضطرة إلى خوض طريق أكثر وعورة مما تصوّر أشدّ المتشائمين.. لكنّ هذه الأزمة بذاتها ولذاتها يجب أن تفرض أولًا، وقبل أي شيء آخر، المحاسبة لا البكاء، ويحتمّ عليها مبدأ الحركة للأمام فورًا، عوضًا عن التوقف في المكان، والذي سيعني فورًا الغرق في فورة اندفاع الأحداث المتصاعدة والمتتالية، لأنّ المواطن هنا من حقه أن يفهم، وأن يتخذ لنفسه ولو بالقلب موقفًا، وهو أضعف الإيمان.