(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
عادت قضية فلسطين، بعد أنهار من الدّم الزكي التي ما تزال تنزف في كلّ لحظة، عرّفت البوصلة والطريق للعالم العربي.. لقد أنتج شهر كامل، من القتال الوحشي من جانب الكيان وحلفائه والصمود البطولي الباسل للمقاومة، عناوين جديدة للصّديق والعدو والشقيق والحليف، وفوق كلّ شيء، أثبتت القضية قدرتها على فرز القيادات "الوطنيّة الحقيقيّة" التي تنتمي لشعوبها لا لأعدائها.
طفح، مع بداية الحرب الجنونيّة على مدينة صغيرة محاصرة ومستنزفة، الوجه الحقيقي للقيم الإنسانيّة الغربية، فلم يعد هناك مجال للقول أو الادّعاء بأنّ الغرب هذا يعرف التحضّر، ولا حتى الشّرف.. لقد ضمّت الدّول الكبرى صفوفها، وحشدت جيوشها وأساطيلها وفتحت مخازن سلاحها لإعلان حرب إبادة كاملة على 2.3 ملايين إنسان عربي يتكدّسون فوق مساحة ضيقة من الأرض، هي مدينة "غزّة"، بطولها البالغ 80 كيلومترًا وعرضها الأقصى 4 كيلومترات، وبمساحة 300 كيلومتر.
وسط الحشد الجنوني؛ جرت على ألسنة قادة العدو وجنرالاته ووزرائه ما تكنّه قلوبهم من غيظ وحقد على كلّ عربي. فهذا وزير الحرب الصّهيوني "يوآف غالانت"ط وصف الفلسطينيين بأنّهم "حيوانات بشريّة"، والأطباء الصهاينة طالبوا علنًا بقصف المستشفيات الفلسطينية التي تئن بجرحاها ونفاد مستلزماتها الأساسيّة، وحكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرهم أعلنوا بلا ذرة حياء مساندة المجزرة الصّهيونية، سياسيًا وعسكريًا.
لكنّ التصريح القنبلة جاء من وزير من يسمّونه "التراث" الصهيوني "عميحاي إلياهو"، والذي طالب صراحة باستخدام السلاح النووي ضد سكان غزة! .. هو تصريح لا سابق له ولا مثيل، في منطقة الشرق الأوسط، لكن بالتأكيد سيكون له ما بعده، لأنّ أطرافًا أخرى مدعوة اليوم للتفكير في جدوى الاستمرار بسياساتها الحالية المتوافقة مع "حظر امتلاك الأسلحة النووية"، فالخطر أصبح واقعًا قائمًا يصفع الكلّ، وأولهم المملكة العربيّة السعوديّة.
إنّ كيان العدو هو رابع دولة غير موقّعة على "معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية"، إلى جانب كوريا الشماليّة والهند وباكستان، وهو تقليديًا يتبنّى سياسة "الغموض النووي"، حيث لم يعلن رسميًا -وعلى الإطلاق- عن امتلاكه للسلاح النووي، فهو يمنح الأنظمة العربيّة المتخاذلة فرصة ثمينة للهروب من التزاماتهم وأدوارهم والإفلات من واجباتهم، لكن ّالأمر، اليوم، صار مكشوفًا، عورة لا ينفع معها أي ستر!
قبل نحو 6 أسابيع، وفي مقابلته الأشهر مع شبكة "فوكس نيوز" الأميركية، طرح وليّ العهد الأمير "محمّد بن سلمان" ما يمكن قول إنّه: "وعد" بحيازة المملكة لسلاح نووي، في حال استطاعت إيران أن تستكمل طريقها، وتملك في النهاية سلاحًا نوويًا، هذا الحديث كان في صلب المقابلة، وبدا للناظر حينها أنّه درس جيدًا، قبل أن يُطرح، وصيغ بدقة قبل أن يُقال.
ولأنّ القرار السّعودي كان ارتفاعًا بمستوى التهديد في المنطقة، ولم يبدِ ردًا على افتراضات أو تخمينات، بل أتى في سياق رسم "إستراتيجية جديدة" لعصر جديد بالكامل، وكانت الثقة في الكلمة واضحة قاطعة، حيث فاتها أوان النصائح أو استرجاع التجارب، فإنها –كلّها- ظهرت وكأنّها تصميم وإرادة لا يخضعان للمراجعة، ولا مجال فيها للمهادنة، أمام أي طرف، عدوًا كان أم جارًا.
السؤال الآن، هل سينفذ الأمير "محمّد بن سلمان" "كلمته هو"، ويحمل المملكة إلى العصر النووي، حيث لا تدور بنا الأيام، ويقف العدو مهددًا، ونحن أمامه أمّة عارية عاجزة، وهل سيعدّ امتلاك طرف في الشرق الأوسط –أي طرف- سلاحًا نوويًا هو تهديد لأمن المملكة ومستقبلها ورخائها!
من المفهوم والمنطقي أنّ الإعلام في المملكة، اليوم، يبتعد عن تغطية المأساة الإنسانيّة المريرة التي تحدث على أرضنا العربيّة وبحقّ شعبنا في فلسطين، عبر اللجوء إلى "سياسة الترفيه". فهو، من جهة لا يستطيع "إدانة" التطبيع، وهو قائم به، وهو من ناحية أخرى يعرف يقينًا تأثير تغطية هذه المجازر غير المسبوقة على مشاعر المواطن العادي، وأنّها ستكون مسوّغًا لغضب مكتوم في القلوب، وهو عوضًا عن دوره الافتراضي تحوّل إلى بوق خدمة لشخص واحد ولرؤية واحدة، وهو أمر –بالإضافة إلى غيره- مشين ومقزّز.