في 2025/12/29
يوسف حمود - الخليج أونلاين
منذ إطلاق "رؤية السعودية 2030"، شكّل برنامج التخصيص أحد أعمدة التحول الاقتصادي في المملكة، بوصفه أداة مركزية لإعادة رسم العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، وتعزيز كفاءة الإنفاق، وتنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط.
ومع دخول البرنامج مراحله التنفيذية المتقدمة، بات التخصيص يمثل اليوم واحداً من أهم محركات النمو والاستثمار، ومصدراً مباشراً للإيرادات، ورافعة لتمكين القطاع الخاص في قطاعات حيوية.
وخلال الأعوام الأخيرة، انتقل التخصيص في السعودية من كونه توجهاً إصلاحياً نظرياً إلى مسار عملي يُترجم بالأرقام والعقود والمشاريع، مع توسع ملحوظ في نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتنامي محفظة الأصول المطروحة، وارتفاع حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية المرتبطة بالبرنامج.
في قلب رؤية 2030
يأتي برنامج التخصيص كأحد البرامج التنفيذية الرئيسة لرؤية السعودية 2030، ويستهدف رفع كفاءة الأصول الحكومية، وتحسين جودة الخدمات، وجذب الاستثمارات، وتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية.
ويعتمد البرنامج على مزيج من نقل ملكية الأصول الحكومية ونماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بما يضمن استمرار الدور التنظيمي للدولة مقابل تمكين القطاع الخاص من التشغيل والاستثمار.
ووفق الرؤية، لا يُنظر إلى التخصيص بوصفه بيعاً للأصول بقدر ما هو إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد، تهدف إلى خلق أسواق أكثر تنافسية، وتحفيز الابتكار، وتخفيف العبء المالي عن الميزانية العامة، مع الحفاظ على استدامة الخدمات الأساسية.
أرقام تعكس حجم التحول
بحلول منتصف ديسمبر 2025، بلغت إيرادات عمليات نقل ملكية الأصول ومشاريع الشراكة الحالية والمستقبلية بين القطاعين العام والخاص في السعودية نحو 60 مليار ريال سعودي (16 مليار دولار)، وفق ما أعلنه وزير المالية محمد الجدعان.
وأشار الجدعان إلى أن إجمالي الاستثمارات في مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص تجاوزت 185 مليار ريال سعودي (49 مليار دولار)، من خلال توقيع نحو 70 عقداً في قطاعات استراتيجية تشمل المياه، والصحة، والتعليم، والنقل، والإسكان، حيث تُعد هذه الأرقام مؤشراً على انتقال التخصيص من مرحلة الإعداد إلى مرحلة العوائد الفعلية.
كما أكد أن محفظة مشاريع التخصيص والشراكة في المملكة تُصنّف ضمن الأكبر عالمياً، سواء من حيث حجم المشاريع أو تنوع القطاعات المستهدفة، وهو ما عزز ثقة المستثمرين المحليين والدوليين بالبيئة الاستثمارية السعودية.
وتعمل السعودية حالياً على واحدة من أضخم محافظ التخصيص والشراكة في المنطقة، حيث أوضح الجدعان أن المركز الوطني للتخصيص يتعاون مع 17 قطاعاً مستهدفاً لإعداد وطرح أكثر من 200 مشروع تخصيص وشراكة، تتجاوز قيمتها الاستثمارية 800 مليار ريال سعودي (213 مليار دولار)، في مراحل مختلفة من التحضير وحتى الإغلاق المالي.
وتشمل هذه المحفظة مشاريع نوعية، من بينها مطارات في أبها والطائف والقصيم وحائل، وطرق رئيسية مثل عسير–جازان، ومكة–جدة، إلى جانب مشروع قطار القدية السريع، ومدن رياضية، ومراكز لوجستية، ومشاريع عقارية، ما يعكس اتساع نطاق التخصيص ليشمل البنية التحتية والخدمات العامة والمشاريع التنموية الكبرى.
القطاعان العام والخاص
أصبحت الشراكات بين القطاعين العام والخاص النموذج الأبرز في تنفيذ التخصيص، لما توفره من توازن بين الحفاظ على الأصول الاستراتيجية وتمكين القطاع الخاص من الاستثمار والتشغيل.
ووفق الجدعان، تجاوزت قيمة مشاريع الشراكة الموقعة 185 مليار ريال سعودي (49 مليار دولار)، مع توسع مستمر في عدد العقود والقطاعات المشمولة.
وتعكس هذه الشراكات توجهاً واضحاً لتقليل المخاطر على الدولة، وتحفيز الكفاءة التشغيلية، وضمان جودة الخدمات، مع توزيع الأدوار بوضوح بين الجهات الحكومية والمستثمرين.
وسبق أن أكد وزير المالية أن الاستراتيجية الوطنية للتخصيص وصلت إلى مراحلها النهائية قبل الاعتماد، وتشمل توقيع أكثر من 220 عقد شراكة، واستكمال نقل ملكية 26 أصلاً حكومياً إلى القطاع الخاص، بما يحقق استثمارات تتجاوز 240 مليار ريال سعودي (64 مليار دولار)، وإيرادات تُقدّر بنحو 27 مليار ريال سعودي (7.2 مليارات دولار).
وتُعد هذه الاستراتيجية الإطار المنظم لمسار التخصيص في المملكة، إذ تحدد القطاعات ذات الأولوية، ونماذج الطرح، وآليات الحوكمة، بما يضمن تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للرؤية، دون الإخلال بمستوى الخدمات أو الاستقرار المالي.
طبيعة التحول
الخبير الاقتصادي فؤاد حسن يرى أن ما يميز برنامج التخصيص في السعودية خلال المرحلة الحالية ليس حجم الإيرادات المحققة، بل التحول في طبيعة الدور الاقتصادي للدولة نفسها.
ويوضح حسن في حديثه لـ"الخليج أونلاين"، أن:
- الدولة في المملكة لم تعد طرفاً مباشراً في التشغيل أو الاستثمار، بل أصبحت "منظماً للسوق وصانعاً للأطر، بينما تُدار الأصول وفق منطق الكفاءة والعائد"، وهذا التحول ينعكس مباشرة على جودة الخدمات واستدامتها أكثر من انعكاسه على الإيرادات قصيرة الأجل.
- الأهمية الحقيقية للتخصيص تكمن في إعادة تسعير المخاطر داخل الاقتصاد، حيث بات القطاع الخاص يتحمل المخاطر التشغيلية والتمويلية، في مقابل احتفاظ الدولة بالدور السيادي والتنظيمي، وهو ما يخفف الضغط المستقبلي على المالية العامة دون اللجوء إلى تقليص الإنفاق الاجتماعي.
- توسع الشراكات في قطاعات مثل النقل والصحة والتعليم يخلق أسواقاً ثانوية جديدة حول الأصول المخصصة، من خدمات لوجستية وتمويلية وتقنية، ما يعني أن الأثر الاقتصادي للتخصيص "أوسع بكثير من الأرقام المعلنة"، ويمتد إلى خلق وظائف غير مباشرة وتحفيز سلاسل قيمة كاملة داخل الاقتصاد المحلي.
- نجاح التجربة السعودية في التخصيص سيُقاس على المدى المتوسط بقدرتها على جذب استثمارات طويلة الأجل منخفضة المضاربة، وليس فقط بسرعة إغلاق الصفقات، وهو ما يجعل البرنامج اختباراً فعلياً لنضج بيئة الأعمال وليس مجرد أداة مالية.
التوقعات والعوائد
تتوقع السعودية جمع ما يقارب 206 مليارات ريال سعودي (55 مليار دولار) من حصيلة برنامج التخصيص، استناداً إلى خطط مبيعات الأصول والشراكات.
وكانت الحكومة قد حددت سابقاً 160 مشروعاً في 16 قطاعاً حتى عام 2025، تشمل مبيعات أصول مثل الفنادق الحكومية، وأبراج البث، ومحطات تبريد وتحلية المياه.
ومع توسع البرنامج وتراكم الخبرات التنظيمية والتنفيذية، يُتوقع أن يشكّل التخصيص خلال السنوات المقبلة ركيزة أساسية في تمويل التنمية، وتحفيز الاستثمار، وتعزيز تنافسية الاقتصاد السعودي، بما يرسخ موقعه كأحد أكثر اقتصادات المنطقة جذباً لرأس المال والشراكات طويلة الأمد.